التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١
قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَٱللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ
٢
وَإِذْ أَسَرَّ ٱلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ
٣
إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ
٤
عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً
٥
-التحريم

تفسير الجيلاني

{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ } المؤيد بالوحي والإلهام من عند العليم العلام، القدوس السلام مقتضى نبوتك وتأييدك: ألاَّ تخالف حكم الله، ولا تبادر إلى الخروج عما قضى الله { لِمَ تُحَرِّمُ } وتمنع عن نفسك من عندك بلا ورود نهي من قِبَل الحق { مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } وأباحه عليك بمقتضى حكمته وعدالته { تَبْتَغِي } بتحريم الحلال على نفسك { مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ } وتترك رضا الله بمخالفة حكمه؟! فارتدع عن فعلك هذا، واستغفر الله لزلتك { وَٱللَّهُ } المطلع على نيتك وإخلاصك { غَفُورٌ } يعفو عنك ما صدر منك { رَّحِيمٌ } [التحريم: 1] يرحمك ويقبل توبتك.
رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بأَمَته مارية في يوم حفصة، فاطلعت حفصة على ذلك فعاتبته، فقال صلى الله عليه وسلم: حرمت مارية على نفسي لأجلك، لا تقولي لأحد من أزواجي، واستكتمي عنهن هذا التحريم، وأيضاً الخلافة بعدي لأبي بكر وبعده لعمر، ولا تفش لأحد قط، فأخبرت حفصة عائشة بكلا الخبرين؛ لكونهما متصادقتين، فأخبرت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فغضب صلى الله عليه وسلم وطلق حفصة طلاقاً رجعياً، وعزل نساءه تسعاً عشرين يوماً؛ لأجل هذه الواقعة، فأنزل الله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ }.
ثمَّ لمَّا نهى سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم على وجه المبالغة والتأكيد، أراد سبحانه أن يبين كفارة اليمين الواقعة من المؤمنين فقال: { قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ } وشرع { لَكُمْ } على سبيل الوجوب { تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } أي: بتحليل أيمانكم وتكفيركم عنها { وَٱللَّهُ } المصلح لأحوالكم { مَوْلاَكُمْ } ومُولي أموركم { وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ } لعموم مصالحكم ومفاسدكم { ٱلْحَكِيمُ } [التحريم: 2] في ضبطها وإصلاحها.
{ وَ } اذكر { إِذْ أَسَرَّ ٱلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ } يعني: حفصة { حَدِيثاً } وهو حديث مارية، وحديث خلافة أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - بعده صلى الله عليه وسلم { فَلَمَّا نَبَّأَتْ } وأخبرت حفصة { بِهِ } عائشة { وَأَظْهَرَهُ ٱللَّهُ } وأطلع سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم { عَلَيْهِ } أي: على إفشاء حفصة الحديث المعهود الذي أوصاها بالإسرار، فغضب صلى الله عليه وسلم على حفصة؛ لذلك { عَرَّفَ بَعْضَهُ } أي: بعض الحديث، وهو حديث تحريم مارية، وطلقها طلاقاً رجعياً انتقاماً عنها { وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } وهو قصة الخلافة ولم يعرفها؛ لئلا يقع الفتنة بين المسلمين، ومع ذلك قد وقعت، وبعدما أطلع الله نبيه على إفشاء حفصة الحديث معاتباً عليها { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ } حفصة ظناً منها أنها صدرت هذا من عائشة: { مَنْ أَنبَأَكَ } وأعلمك { هَـٰذَا قَالَ } صلى الله عليه وسلم في جوابها: { نَبَّأَنِيَ ٱلْعَلِيمُ } بالسرائر والخفايا { ٱلْخَبِيرُ } [التحريم: 3] بما يجري في الضمائر والنيات.
ثمَّ قال سبحانه في قِبَل نبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخطاب المبنئ عن العتاب: { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ } أنت وعائشة عما صدر عنكما توبةً صادرة عن محض الندم والإخلاص، منبئة عن كمال الموافقة والاختصاص مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقد جبرتما ما كسرتما، وإلاَّ { فَقَدْ صَغَتْ } زاغت ومالت { قُلُوبُكُمَا } عن موافقة الرسول ومخالصته، فجئتما بما يكرهه صلى الله عليه وسلم وبكراهتكما ما يحبه صلى الله عليه وسلم { وَإِن تَظَاهَرَا } وتعاونا { عَلَيْهِ } أي: على ما أنتما عليه من مخالفة الرسول فلن تضرا له صلى الله عليه وسلم شيئاً من الضرر، وكيف يلحقه صلى الله عليه وسلم ضرر منكما { فَإِنَّ اللَّهَ } المراقب لعموم أحواله { هُوَ } سبحانه { مَوْلاَهُ } ناصره ومعينه، ومولي عموم أموره { وَجِبْرِيلُ } رئيس الكروبيين قرينه وملازمه { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } أتباعه وأعوانه { وَالْمَلاَئِكَةُ } أي: عموم الملائكة { بَعْدَ ذَلِكَ } أي: بعد نصر أولئك المظاهرين { ظَهِيرٌ } [التحريم: 4] له سبحانه على سبيل التعريض لعموم أزواجه صلى الله عليه وسلم؟!
{ عَسَىٰ رَبُّهُ } الذي رباه على الكرامة الأصلية، والنجابة الجبلية { إِن طَلَّقَكُنَّ } جميعاً { أَن يُبْدِلَهُ } بمقتضى قدرته وإرادته { أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ } صورة وسيرة، أخلاقاً وأعمالاً { مُسْلِمَاتٍ } في الاعتقاد، مسلمات عن العيوب { مُّؤْمِنَاتٍ } بوحدة الحق، مصدقات لعموم ما نزل من عنده { قَانِتَاتٍ } راسخات على الطاعات، مواظبات على عموم الخيرات، خاضعات خاشعات لله في عموم الأوقات { تَائِبَاتٍ } عن عموم المنكرات والمحظورات { عَابِدَاتٍ } على وجه التذلل والخضوع، وكمال الانكسار والخشوع { سَائِحَاتٍ } صائمات أو مهاجرات { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } [التحريم: 5] يعني: سواء كن ثيبات أو أبكاراً.