التفاسير

< >
عرض

تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ
٨
قَالُواْ بَلَىٰ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ
٩
وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ
١٠
فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ
١١
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
١٢
وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
١٣
أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ
١٤
هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ
١٥
-الملك

تفسير الجيلاني

ومن شدة غضبها وسخطها { تَكَادُ } وتقرب { تَمَيَّزُ } وتفترق أجزاؤها { مِنَ الغَيْظِ } المفرط { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ } أي: جماعة وفرقة من المتفقين المجتمعين على ديدنة قبيحة، وخصلة خارجة عن مقتضى الحدود الإلهية { سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ } سؤال توبيخ وتقريع: { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } [الملك: 8] يخفوكم من هذا العذاب الهائل، مع أن سنة الله جرت على ألاَّ يدخل عباده فيها إلاَّ بعد الإنذار والتخويف.
{ قَالُواْ } حينئذٍ متسحرين: { بَلَىٰ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ } فأنذرنا عنها على أبلغ الوجوه { فَكَذَّبْنَا } النذير، وأفرطنا في تكذيبه إلى حيث نفينا الإنزال والإرسال مطلقاً، بل كفرنا بالحق وبحميع ما جاء به النبي النذير من عنده، ونسبنا دعواه إلى السفه والضلال { وَ } بالجملة: { قُلْنَا } له حين دعوته وادعائه نزول الكتاب: { مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ } أي: ما أنتم أيها المدَّعون للرسالة { إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } [الملك: 9] عظيم لا ضلال أعظم من ضلالكم.
{ وَ } بعدما حكوا أولئك الضالون ما حكوا { قَالُواْ } من غاية أسفهم وحسرتهم على سبيل التمني: { أَوْ نَعْقِلُ } كلام الرسل المؤيَّدين بالمعجزات الظاهر { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ } نتأمل ونتفكر في حججهم الساطعة، ودلائلهم القاطعة { مَا كُنَّا } الآن { فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [الملك: 10] أي: في عدادهم ومن جملتهم.
وبالجملة: { فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ } وندموا، وما ينفعهم الاعتراف والندم؛ لمضي وقته، بل { فَسُحْقاً } طرداً وتبعيداً عن ساحة عز القبول، وعن سعة رحمة الحق، وكنف لطفه ومغفرته { لأَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [الملك: 11] أي: لمطلق من دخل بشؤم كفره وإنكاره فيها.
ثمَّ أردف سبحانه حال الكفرة بحال المؤمنين تنشيطاً للسامع، وحثاً له على التثبت في الإيمان فقال: { إِنَّ } المؤمنين { ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ } ويخافون { رَبَّهُم } أي: عذابه { بِٱلْغَيْبِ } أي: حال كونهم في النشأة الأولى غائبين عنه، غير معاينين له { لَهُم } عند ربهم { مَّغْفِرَةٌ } ستر ومحو لذنوبهم الصادرة عنهم بمقتضى بشريتهم جزاء إيمانهم بالله، وخشيتهم عن عذابه { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [الملك: 12] يصغر دونه الدنيا وما فيها تفضلاً عليهم وامتناناً، ألا وهو رضاء الله منهم
{ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ } [التوبة: 72] من الآخرة وما فيها، فكيف عن الدنيا؟!
ثمَّ لمَّا قال بعض المشركين لبعضهم على سبيل التهكم: أسرُّوا قلوكم؛ كي لا يسمعه ربّ محمد، نزل: { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ } أيها المشركون { أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ } وهما سيان بالنسبة إلى علمه المحيط، وكيف لا { إِنَّهُ } سبحانه { عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } [الملك: 13] أي: بما في الضمائر قبل أن يعتبر به أو يقصد بتعبيره، بل هو عليم بما في استعداداتكم وقابلياتكم المكنونة في عالم الأسماء والصفات قبل ظهوركم في عالم الأشباح؟!
{ أَلاَ يَعْلَمُ } العليم الحكيم { مَنْ خَلَقَ } وقدّر بمقتضى علمه المحيط، وقدرته الشاملة، وإرادته الكاملة { وَ } كيف لا { هُوَ ٱللَّطِيفُ } الواصل آثار علمه إلى خفيات الأشياء وأسرارها { ٱلْخَبِيرُ } [الملك: 14] المحيط خبرته لظواهر المظاهر وبواطنها.
وبالجملة: { هُوَ } سبحانه القادر المقتدر { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ } أيها المكلفون بمقتضى سعة رحمته وجوده { ٱلأَرْضَ ذَلُولاً } لينة سهلة، قابلة للسلوك عليها { فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا } جبالها أو جوانبها حيث شئتم { وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ } رغداً واسعاً متى أردتم، واشكروا المنعم المفضل، ولا تكفروا به وبنعمه { وَ } اعلموا أنه { إِلَيْهِ } لا إلى غيره من الوسائل والأسباب { ٱلنُّشُورُ } [الملك: 15] أي: نشور الكل ورجوعه؛ إذ لا مرجع لكم سواه، ولا معاد إلاَّ إليه، فيسألكم عمَّا أنعم عليكم ويحاسبكم عليه.