التفاسير

< >
عرض

خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمْ سَٰلِمُونَ
٤٣
فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ
٤٤
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ
٤٥
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ
٤٦
أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ
٤٧
فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ
٤٨
لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ
٤٩
فَٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ
٥٠
وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ
٥١
وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ
٥٢
-القلم

تفسير الجيلاني

بل صاروا { خَٰشِعَةً } ذليلة حاسرة { أَبْصَٰرُهُمْ } هائمة عقولهم، وبالجملة: { تَرْهَقُهُمْ } وتلحقهم { ذِلَّةٌ } محيطة بجميع جوانبهم { وَ } كيف لا يكونون كذلك يومئذٍ؛ إذ هم { قَدْ كَانُواْ } في نشأة الاخيتار { يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ } حينئذٍ { وَهُمْ سَٰلِمُونَ } [القلم: 43] متمكنون قادرون عليه، فلم يفعلوا عناداً ومكابرةً؟! فالآن قد انقضى وقت الاعتبار، فلا ينفعهم التذلل والانكسار سواء قدروا أو لم يقدروا.
وبعدما بالغ المنكرون المكذِّبون في قدح القرآ، وطعنه، وأصروا على العناد والاستكبار.
{ فَذَرْنِي } أي: خلني يا أكمل الرسل { وَ } وفوض عليّ أمر { مَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } يعني: القرآن، ولا تُتعب نفسك في معارضتهم ومجادلهم، ولا تعجل في أخذهم وانتقامهم، فإني أنتقم منهم، وأكفيك مؤنة شرورهم، فاعلم أنَّا { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ } أي: ندنيهم درجة درجة إلى سوء العذاب بأن نهملهم في الدنيا، وننعم عليهم، ونديم صحتهم ونوفر عليهم أسباب الشقاوة حتى صاروا مغمرين في الكفر والطغيان، منهمكين في الضلال والعصيان، ثمَّ نبطشهم { مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [القلم: 44] أي: من جهة وطريقة لا يفهمون أنه من جهته وطريقه مكراً عليهم، وزجراً لهم.
{ وَ } بالجملة: { أُمْلِي لَهُمْ } وأمهلهم كيداً عليهم، وهم لا يشعرون { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } [القلم: 45] محكم لا يفهمه أحد، ولا يدفعه شيء.
أينكرون إرشادك وتبليغك إياهم عناداً ومكابرةً؟! { أَمْ } يظنون أنك { تَسْأَلُهُمْ أَجْراً } جعلاً على إرشادك وتكميلك إياهم؟! { فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ } أي: من أجل غرامة { مُّثْقَلُونَ } [القلم: 46] بحملها فيعرضون عنك، ويكذبونك بسببها.
{ أَمْ } يدَّعون الاطلاع على المغيبات، ويزعمون أن { عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ } أي: لوح القضاء { فَهُمْ يَكْتُبُونَ } [القلم: 47] منه جميع ما يحكمون به من الإقرار والإنكار، وبه يستغنون عن تعليمك وإرشادك؛ لذلك يكذبونك وينكرون عليك؟!
وهم وإن بالغوا في العناد والإنكار { فَٱصْبِرْ } أنت يا أكمل الرسل { لِحُكْمِ رَبِّكَ } وهو تأخير نصرك عليهم، وإمهالهم زماناً على حالهم، ولا تستعجل في مؤاخذتهم { وَلاَ تَكُن } في الاستعجال { كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ } يعني: أخاك يونس بن متى عليه السلام، فاستعجل العذاب القومه، ثمَّ لمَّا ظهرت أماراته خرج من بينهم مغاضباً عليهم حتى اقتحرم البحر
{ فَسَاهَمَ } [الصافات: 141] في السفينة { فَكَانَ مِنَ ٱلْمُدْحَضِينَ * فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } [الصافات: 141- 142]، اذكر { إِذْ نَادَىٰ } ربه في بطن الحوت { وَهُوَ } حينئذٍ { مَكْظُومٌ } [القلم: 48] مملوء غضباً وغيظاً، مبتلى بالبلاء العظيم.
{ لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ } أدركته { نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ } يعني: لو لم يوفقه سبحانه على نعمة التوبة، والإنابة والرجوع إليه على وجه الإخلاص والندامة { لَنُبِذَ } وطرح ألبتة { بِٱلْعَرَآءِ } أي: الأرض الخالية عن الشجر { وَهُوَ } حينئذٍ { مَذْمُومٌ } [القلم: 49] مليم مطرود من الرحمة والكرامة.
لكن أدركته العناية الإلهية، وانفتح له باب التوبة والاستغفار على وجه الندم والانكسار، فاستغفر ربه وتاب عليه، وأجاب له تفضلاً عليه وامتناناً { فَٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ } أيضاً لمصلحة النبوة فأرسله إلى قومه { فَجَعَلَهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } [القلم: 50] الكاملين في الصلاح، الفائزين بالعصمة والفلاح.
{ وَ } من غلظ غيظهم معك يا أكمل الرسل، وشدة شكيمتهم وضغينتهم بالنسبة إليك { إِن يَكَادُ } أي: إنه يقرب { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بالله، وستروا محامد أخلاقك، ومحاسن شيمك { لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ } أي: حين سمعوا منك تلاوة القرآن المعجز، وتعجبوا من بدائع نظمه، وغرائب أسلوبه، وكمال فصاحته وبلاغته، ومتانة تركيباته الفائقة على تراكيب عموم أرباب اللسن والفصاحة، وعجائب معانيه التي قرعت أسماعهم؛ لذلك حسدوك خفية، وقصدوا مقتك بإصابة العين { وَ } إن كانوا { يَقُولُونَ } عند الملأ: { إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } [القلم: 51] يتكلم بكلام المجانين، ما هو من جنس كلام الناس تلبيساً على ضعفاء الأنام، وتغريراً لهم؛ لئلا يتفطنوا على عظمة شأنك، ورفعة قدرك ومكانك.
وهم في خلواتهم على ظنة تامة، وحسد كامل مما صار منك وظهر عليك من الخوارق { وَ } كيف يقولون لك: مجنون، وينسبون كلامك إلى الجنون، مع أنه { مَا هُوَ } أي: القرآن المعجز الذي
{ لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } [فصلت: 42]، { إِلاَّ ذِكْرٌ } هداية ورشد وتبصرة كاملة، وتذكير شامل { لِّلْعَالَمِينَ } [القلم: 52] أي: لعموم المكلفين ممن يوفقهم الحق إلى صراط مستقيم.
جعلنا الله ممن تذكر به، واتعظ بما فيه بمنِّه وجوده.
خاتمة السورة
عليك أيها المريد القاصد لسلوك طريق التوحيد - هداك الله إلى سواء السبيل - أن تتصبر على مشاق الطاعات، ومتاعب التكاليف الواقعة في سلوك طريق الفناء، سيما أذيات الزائفين الضالين، المائلين عن سبيل الرشاد، المنحرفين عن جادة العدالة الإلهية، فعليك ألاَّ تلتفت نحوهم، ولا تبال بشأنهم، ولا تستعجل بانتقامهم، فأن الله يكفي عنك مؤنة شرورهم، فعليك الاصطبار والوقار، والأمر بيد الله الحكيم الجبار، القدير القهار، فسينتقم من أهل البغي والإنكار على أبلغ وجه وآكده.