التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَاقَّةُ
١
مَا ٱلْحَآقَّةُ
٢
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحَاقَّةُ
٣
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِٱلْقَارِعَةِ
٤
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ
٥
وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ
٦
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ
٧
فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ
٨
وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَٱلْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ
٩
فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً
١٠
إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي ٱلْجَارِيَةِ
١١
لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ
١٢
فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ
١٣
وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً
١٤
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ
١٥
-الحاقة

تفسير الجيلاني

{ ٱلْحَاقَّةُ } [الحاقة: 1] أي: النشأة الأخرى التي ظهرت فيها حقية الحق وثبوته، وتحقق دونها من على الحق، وفاز بجزائه، واستقر في دار السرور، ومن على الباطل ولحق العذاب المعد له، واستقر على الويل والثبور، ثمَّ استفهم سبحانه عنها تهويلاً وتعظيماً فقال: { مَا ٱلْحَآقَّةُ } [الحاقة: 2] التي انقهرت دونها أظلال الأغيار، وأشباح العكوس والسوى مطلقاً، وبروز الله الواحد القهار؟.
ثمَّ زاد سبحانه على تهويلها بأن نفاها عن إحاطة علم حبيبه صلى الله عليه وسلم الذي جاء من عنده رحمةً للعالمين أياها، فقال: { وَمَآ أَدْرَاكَ } أي: وأي شيء أعلمك وأفهمك يا أكمل الرسل { مَا ٱلْحَاقَّةُ } [الحاقة: 3] التي طويت دونها نفوس الكثرات والإضافات مطلقاً، وفنيت عندها عكوس الأسماء والصفات رأساً؟ وبالجملة: انقهرت رسوم الناسوت، ولم يبق إلاَّ الحي القيوم اللاهوت، ولا شك أنه متعال عن مطلق الإدراك والاطلاع المترتب على نشأة الناسوت.
قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع للمكذبين بها والمنكرين عليها: { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِٱلْقَارِعَةِ } [الحاقة: 4] أي: بالحاقة التي يقرع الأسماع سماع أهوالها، ويدهش العقول ذكر أفزاعها.
{ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ } [الحاقة: 5] أي: بسبب طغيانهم بالتكذيب المتجاوز عن الحد، أُهلكوا بصيحة هائلة مجاوزة عن حد الصياح.
{ وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ } باردة في غاية البرودة { عَاتِيَةٍ } [الحاقة: 6] شديدة العصف، بحيث لا يقدرون على دفعها وردها أصلاً.
حين { سَخَّرَهَا } وسلطها { عَلَيْهِمْ } سبحانه بمقتضى قهره وانتقامه { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } متتابعات مترادفات، قاطعات قالعات { فَتَرَى } أيها المعتبر الرائي { ٱلْقَوْمَ فِيهَا } أي: في تلك الأيام والليالي { صَرْعَىٰ } هلكى { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [الحاقة: 7] ساقطة عن أصولها، لا جوف لها.
{ فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم } أي: ما ترى لهم بعد تلك الأيام { مِّن بَاقِيَةٍ } [الحاقة: 8] أي: لم يبق منهم نفس لها حياة بعد تلك الواقعة الهائلة.
{ وَ } بعد انقراض هؤلاء الغواة الطغاة، الهالكين في تيه الجهل والعناد { جَآءَ فِرْعَوْنُ } الطاغي المجاوز عن الحد والبغي والعدوان { وَمَن قَبْلَهُ } ويقدم عليه من الأمم الباغية، أو من معه من ملئه وأشرافه - على القراءتين - { وَ } جاء أيضاً { ٱلْمُؤْتَفِكَاتُ } هي قرى قوم لوط عليه السلام؛ والمراد: من فيها كلهم جاءوا { بِالْخَاطِئَةِ } [الحاقة: 9] المعهودة التي هي إنكارهم بيوم الحاقة الحقة على وجه المبالغة.
وبعدما جاء الرسل إليهم بالوحي { فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ } أي: عصى كل أمة برسولها المبعوث إليهم؛ ليديهم إلى طريق الرشاد، فكذبوه واستهزءوا معه، وبالغوا في تكذيبه وعصيانه سبحانه { فَأَخَذَهُمْ } سبحانه { أَخْذَةً رَّابِيَةً } [الحاقة: 10] زائدة شديدة على مقتضى ما ازدادوا في العصيان والتكذيب.
اذكر يا أكمل الرسل شدة أخذنا إياهم { إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ } بعدما أمرناه بالطغيان في يوم الطوفان { حَمَلْنَاكُمْ } أي: آباءكم الذين آمنوا بنوح عليه السلام، وأنتم في أصلابهم { فِي ٱلْجَارِيَةِ } [الحاقة: 11] أي: السفينة التي صنعها نوح بتعليمنا إياه قبل الطوفان بمدة، وأغرقنا الكفرة بأجمعهم إلى حيث لم يبق على الأرض سوى أصحاب السفينة أحد من البشر.
وإنما حملناكم عليها وأنجيناكم بها { لِنَجْعَلَهَا } أي: هذه الفعلة الجميلة التي هي نجاة المؤمنين من الطوفان العظيم { لَكُمْ } أيها المستخلفون المكفلون { تَذْكِرَةً } عظة وعبرة، وتبصرة دالة على كمال قدرة الصانع الحكيم، ومتانة حكمته { وَتَعِيَهَآ } أي: تستحضر بها وتحفظها؛ أي: هذه التذكرة والتبصرة الكاملة { أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [الحاقة: 12] حافظة للعبر والتذاكير المورثة للقلوب الصافية الخائفة خيراً كثيراً، ونفعاً كبيراً.
وبعدما بالغ سبحانه في وصف القيامة، وشرح أهوالها وأحوالها، وذكر حال من كذب بها، ومآل أمره، أراد أن يشرح ما ظهر فيها من الأمور الهائلة والوقائع العظيمة عند قيامها ، فقال: { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } [الحاقة: 13] وهي النفخة الأولى التي عندها خراب العالم.
{ وَ } بعد ظهور النفخة الأولى { حُمِلَتِ } ورفعت { ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ } من أماكنها التي استقرتا عليها بأن أمر عليهما سبحانه بالتسيير والاضطراب بمقتضى القدرة الغالبة { فَدُكَّتَا } انكسرتا وانبسطتا، فصارتا { دَكَّةً وَاحِدَةً } [الحاقة: 14] أي: قاعاً صفصفاً، مساواة ملساء لا عوج لها ولا أمتاً.
{ فَيَوْمَئِذٍ } أي: حين وقوع هذه الحالة الهائلة { وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } [الحاقة: 15] وقامت القيامة الكبرى، والطامة العظمى.