التفاسير

< >
عرض

وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ
١٤٨
وَلَمَّا سُقِطَ فِيۤ أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ
١٤٩
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَٰنَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيۤ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ ٱلأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ
١٥٠
قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ
١٥١
-الأعراف

تفسير الجيلاني

{ وَ } من جملة الأسباب الموجبة لإحباط أعمالهم: اتخاذهم العجل إلهاً، وذلك أنه { ٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ } أي: من بعد ذهابه إلى الميقات عنده ربه { مِنْ حُلِيِّهِمْ } التي ورثوها من القبط بتعليم السامري أياهم { عِجْلاً } صورة عجل، وبعدها أذابوا الحلي وصاغوها ألغى السامري عليها ما قبض من تراب حافر فرس جبريل فصارت { جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } صوت كصوت البقر، فقال السامري: هذا إلهكم وإله موسى فاتخذوها إلهاً، مع أنهم صاغوها بأيديهم من حليهم، أيأخذون العجل المصنوع إلهاً أولئك الهالكون في تيه الغفلة والنسيان.
{ أَلَمْ يَرَوْاْ } أي: لم يعلموا ولم يتفطنوا { أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ } أي: المصوغ المصنوع لا يكلمهم بكلامٍ دال على إصلاح حالهم { وَلاَ يَهْدِيهِمْ } ويرشدهم { سَبِيلاً } أي: الخير والصواب حتى يستحق للعبودية، بل { ٱتَّخَذُوهُ } معبوداً ظلماً وزوراً { وَكَانُواْ } في أنفسهم { ظَالِمِينَ } [الأعراف: 148] خارجين مجاوزين عن مقتضى العقل والنقل.
{ وَلَمَّا سُقِطَ فِيۤ أَيْدِيهِمْ } أي: ظهر ندمهم عن فعلهم، واشتد فيهم تجهيل نفوسهم وتخطئة عقولهم، ولاح عندهم قبح صنيعهم هذا { وَ } بالجملة: { رَأَوْاْ } وعلموا { أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ } بهذه الغفلة القبيحة عن مقتضى العقل والنقل { قَالُواْ } متضرعين مسترجعين خائفين، خجلين: { لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا } بسعة رحمته وجوده { وَ } لم { يَغْفِرْ لَنَا } ما جئتنا به ولم يتجاوز عنا ما فرطنا فيه { لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [الأعراف: 149] خسراناً عظيماً في الدنيا والآخرة.
{ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ } بعدما وقع فيه ما وقع، وسمع ما سمع صار { غَضْبَٰنَ } أي: استولى عليه غضبه حمية وغيرة { أَسِفاً } متأسفاً متحزناً؛ لضلال قومه { قَالَ } مغاضباً: { بِئْسَمَا } أي: بئس شيئاً { خَلَفْتُمُونِي } أي: أبدعتم خلفي { مِن بَعْدِيۤ } أي: من بعد ذهابي إلى ربي؛ لأزيد صلاحكم وإصلاحكم أيها المسرفون المفرطون فازددتم الضلال، واستوجتبم النكال { أَعَجِلْتُمْ } أيها الحمقى { أَمْرَ رَبِّكُمْ } أي: عذابه وعقابه { وَأَلْقَى } من غضبه { ٱلأَلْوَاحَ } التي كانت بيده من التوراة فانكسر منها واضمحل ما يتعلق بتفصيل الاحكام، وبقي المواعظ { وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ } هارون؛ أي: من شعر رأسه؛ من غاية غضبه وغيظه { يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } أي: إلى نفسه؛ زجراً له وتشدداً عليه كيف لا يحفظهم، ولا ينكر عليهم؛ حتى لا يضلوا ولا يكفروا باتخاذ العجل لها؟ { قَالَ } هارون معتذراً متحزناً: { ٱبْنَ أُمَّ } أضافه إلى الأم استعطافاً { إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي } حين أظهرت الإنكار عليهم، وأردت أن أصرفهم عمَّا هم عليه، وصاروا بأجمعهم أعدائي، بل { وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي } لشدة غيظهم عليَّ وعداوتهم معي، وأنت أيضاً تغضب عليَّ وتجر رأسي، وهم يفرحون ويضحكون ببغضك عليَّ وزجرك إياي { فَلاَ تُشْمِتْ } ولا تٌفرح يا أخي { بِيَ ٱلأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي } شريكاً { مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ } [الأعراف: 150] الخارجين عن مقتضى العقل والنقل.
ثمَّ لمَّا سمع موسى من هارون ما سمع ندم عن فعله وعن سوء الأدب مع أخيه؛ لأنه أكبر منه سناً، واسترجع إلى الله حيث { قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي } عمَّا صنعت مع أنه بريء مما نسبت إأليه { وَ } اغفر أيضاً { لأَخِي } فلم يتقاعد ويتقاصر عن إنكار هؤلاء المضلين المتخذين لك شريكاً من أدنى مخلوقاتك { وَأَدْخِلْنَا } بفضلك وجودك { فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } [الأعراف: 151].