التفاسير

< >
عرض

فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ
٣١
وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ
٣٢
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ
٣٣
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ
٣٤
أُوْلَـٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ
٣٥
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ
٣٦
عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ
٣٧
أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ
٣٨
كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ
٣٩
فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ ٱلْمَشَٰرِقِ وَٱلْمَغَٰرِبِ إِنَّا لَقَٰدِرُونَ
٤٠
عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ
٤١
فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ
٤٢
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ
٤٣
خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ
٤٤
-المعارج

تفسير الجيلاني

{ فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ } وطلب { وَرَآءَ ذَلِكَ } الذي ذُكر من السراري والأزاج { فَأُوْلَـٰئِكَ } المسرفون المفرطون { هُمُ ٱلْعَادُونَ } [المعارج: 31] المجاوزون عن مقتضى الحدود الموضوعة بحفظ العفة.
{ وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ } التي ائتمنوا بها { وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } المعارج: 32] لحقوقها وحفظها على الوجه الأصلح الأحوط.
{ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم } المودعة عندهم في حقوق المسلمين { قَائِمُونَ } [المعارج: 33] حافظون، مستحضرون إلى وقت الأداء على وجهها.
{ وَ } بالجملة: المؤمنون المخلصون هم { الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ } المكتوبة لهم في الأوقات المحفوظة المقدرة { يُحَافِظُونَ } [المعارج: 34] على وجهها مع كمال الخضوع والخشوع، ورعاية الشرائط والأركان والأبعاض، وسائر الآداب في المندوبات المتعلقة بالصلوات.
{ أُوْلَـٰئِكَ } السعداء المتصفون بهذه الصفات الكاملة مقبولون عند الله، متنعمون { فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ } [المعارج: 35] فيها بأنواع الكرامات تفضلاً وإحساناً.
وبعد ظهر وميز حال المؤمنين وحال الكافرين عند الله في النشأة الأخرى { فَمَالِ } عرض ولحق { الَّذِينَ كَفَرُواْ } بك وبدينك وكتابك { قِبَلَكَ } حواليك وجوانبك { مُهْطِعِينَ } [المعارج: 36] مترددين مسرعين.
{ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ } [المعارج: 37] متفرقين فرقاً شتى يترددون حولك فرقة بعد فرقة، ويسمعون منك كلامك.
{ أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ } بالتردد حولك { أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ } [المعارج: 38] بلا إيمان وتصديق وإطاعة مقارنة بالأعمال الصالحة؟!
{ كَلاَّ } وحاشا؛ أي: يحصل لهم هذا بلا سبق الإيمان، وامتثال الأوامر والأحكام، وكيف يدخلون أولئك الخبيثون في منازل القدس بلا تصفية وتزكية بالإيمان، وتحلية بالأعمال؟! { إِنَّا خَلَقْنَاهُم } وقدرنا وجودهم { مِّمَّا يَعْلَمُونَ } [المعارج: 39] وهو النطفة القذرة الخبيثة التي لا نسبة لها بالمقام المقدس عن الرذائل والكدورات، المطهر من أوساخ الطبيعة وقيل الهيولى الحاصلة من ظلمة عالم الناسوت، فلم يطهروا نفوسهم بنور الإيمان اللاهوتي، ولم يتصفوا بالعرفان لم يصلوا إلى رضوة الجنان، ولم يثابوا بنعيم الألوان.
{ فَلآ أُقْسِمُ } أي: لا حاجة لنا إلى القسم بإثبات كمال قدرتنا { بِرَبِّ ٱلْمَشَٰرِقِ } أي: عموم الذرات التي أشرقت عليها شمس الذات باعتبار الظهور { وَ } لا برب { ٱلْمَغَٰرِبِ } أي: جميع الذرات التي غربت فيها شمس الذات باعتبار الخفاء والبطون { إِنَّا لَقَٰدِرُونَ } [المعارج: 40] بالقدرة الغالبة الكاملة.
{ عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ } بأن نهلكهم ونستأصلهم المرة، ونأت بدلهم بخلق أفضل منهم وأصلح لإيمان وقبول دين الإسلام { وَ } بالجملة: { مَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } [المعارج: 41] مغلوبين من أحد، إن أردنا هذا التبديل والتغيير، وتعلقت مشيئتنا به.
وبعدما سمعت يا أكمل الرسل كمال قدرتنا على إهلاكهم وتبديلهم { فَذَرْهُمْ } واتركهم وحالهم { يَخُوضُواْ } في الأباطيل الزائغة، والأراجيف الزاهقة { وَيَلْعَبُواْ } بالآيات الواضحة، والبينات اللائحة { حَتَّىٰ يُلَٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } [المعارج: 42] للحشر والنشر، وتنقيد الأعمال والحساب عليهم، والجزاء بمقتضاه.
اذكر لهم يا أكمل الرسل على وجه التذكير والتهويل { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ } أي: القبور بعد نفخ الصور، ويسرعون نحو الداع { سِرَاعاً } مسرعين { كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ } صنم ينصب؛ للزيادة والاستلام { يُوفِضُونَ } [المعارج: 43] يسرعون؛ يعني: إسراعهم في تلك الحالة نحو الدَّاعي يشبه إسراعهم نحو الصنم المنصوب للعبادات، ورفع الحاجات، كما هو عادتهم طول عمرهم في الدنيا.
فيكونون حينئذٍ { خَٰشِعَةً } ذليلة خاسرة { أَبْصَٰرُهُمْ } بحيث لا يمكنمهم أن ينظروا إليه؛ إذ { تَرْهَقُهُمْ } وتغشاهم { ذِلَّةٌ } عظيمة بدل ما يذلون داعي الله حين دعوته في الدنيا { ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ } العظيم الهائل هو اليوم { ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ } [المعارج: 44] في نشأة الاختبار فلم يصدقوا، ولم يؤمنوا له إلى أن يعاينوه.
جعلنا الله من زمرة المصدِّقين بيوم الدين.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المحمدي أن تعتقد، بل تعاين وتشاهد إن كنت من أولي الأبصار، وذوي القدر والاعتبار أن النشأة الأخرى هي دار القرار والخلود، بل العالم الموجود هي.
والنشأة الأولى إنما هي أظلال لا وجود لها، وعكوس لا ثبوت لها، وإضافات لا حقيقة لها، وتعينات لا تحقق لها.
فعليك ألاَّ تستقر عليها إلاَّ كالعابر، ولا تعيش فيها إلا كالمسافر، ما تدري ما أ×ي أن جميع ما عليها ظل زائل، وعموم لذاتها وشهواتها سراب بلا طائل؟!
إلام تتشبث بها بوما فيها، علام تستلذ بمزخرفاتها وملاهيها؟! فإنك عن قريب ستموت وما تدخر فيها سيضيع ويفوت، فلك أن تستعد لأخراج في أولاك، وتتزود لعقباك من دنياك.
وبالجمل: فلك أن تموت بالاختيار قبل هجوم الموت على وجه الاضطرار، فاعلم أن هذه الحياة الدنيا ما هي إلا متاع، وأن الآخرة هي دار القرار.