التفاسير

< >
عرض

سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ
١
لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ
٢
مِّنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلْمَعَارِجِ
٣
تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ
٤
فَٱصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً
٥
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً
٦
وَنَرَاهُ قَرِيباً
٧
يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ
٨
وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ
٩
وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً
١٠
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ
١١
وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ
١٢
وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُؤْوِيهِ
١٣
وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ
١٤
كَلاَّ إِنَّهَا لَظَىٰ
١٥
نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ
١٦
تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ
١٧
وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ
١٨
-المعارج

تفسير الجيلاني

{ سَأَلَ سَآئِلٌ } أي: جرى على سبيل السيل والطغيان وادي الإمكان مملوءاً { بِعَذَابٍ } أي: أنواع من العذاب { وَاقِعٍ } [المعارج: 1].
{ لِّلْكَافِرِينَ } الساترين بطبائعهم الكثيفة، وهوياتهم الباطلة السخيفة شمس الحق الظاهرة في الأنفس والآفاق بمقتضى الاستحقاق إلى حيث { لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } [المعارج: 2] يرده ويدفعه عنهم.
{ مِّنَ ٱللَّهِ } أي: من قبله وجتهه؛ لتعلق مشيئته ومضاء قضائه المبرم على وقوعه لأعدائه، مع أنه سبحانه { ذِي ٱلْمَعَارِجِ } [المعارج: 3] والدرجات العليَّة، والمقامات السنيَّة من القرب والكرامات لأوليائه.
{ تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ } أي: حوامل آثار الأسماء والصفات الإلهية من مجردات العالم السفلي { وَٱلرُّوحُ } الفائض من لدنه سبحانه على هياكل الهويات من ماديات عالم الطبيعة، والأركان القابلة لآثار العلويات من الأسماء والصفات المسمَّاة بالأعيان الثابتة { إِلَيْهِ } أي: إلى الذات البحث الخالص عن مطلق القيود والإضافات بعدما جذبه الحق، وأدركته العناية الإلهية مترقياً من درجة إلى درجة { فِي يَوْمٍ } وشأن لا كأيام الدنيا وشئونها، وإن قسته إلى أيام الدنيا، وأضفتشه إلى المسافة الدنيَّة الدنيوية { كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [المعارج: 4] من سَني الدنيا، إلاَّ أنهم يقطعونها بعد ورود الجذبة الإلهية، كالبرق الخاطف في أقصر من لمحة وطرفة.
وبعدما انكشف لك الأمر { فَٱصْبِرْ } يا أكمل الرسل على أذيات الأعداء واستهزائهم { صَبْراً جَمِيلاً } [المعارج: 5] لا يشوبه قلق واضطراب، وضجرة وسآمة، واستعجال للانتقام، وترقب بالعذاب على وجه التهتك، فإنه سيصيب لهم العذاب الموعود عن قريب.
{ إِنَّهُمْ } بمقتضى إنكارهم وإصرارهم { يَرَوْنَهُ } أي: نزول العذاب { بَعِيداً } [المعارج: 6] في غاية البعد إلى حيث يعتقدونه محالاً خارجاً عن حد الإمكان.
{ وَنَرَاهُ قَرِيباً } [المعارج: 7] من لمح البصر، بل هو أقرب منهم.
اذكر لهم يا أكمل الرسل كيف يعملون { يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ } من القهر الإلهي { كَٱلْمُهْلِ } [المعارج: 8] أي: كالفضة المذابة، يسيل من مكانها من غاية الخشية الإلهية.
وتكون الجبال الملونة بالألوان المختلفة بعدما شمله النظر القهري الإلهي { وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ } [المعارج: 9] أي: كالصوف المصبوغ المندوف تذروه الرياح حيث شاءت.
{ وَ } حينئذٍ { لاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } [المعارج: 10] أي: لا يسأل قريب عن قريبه، وصديق عن صديقه، بل يومئذ
{ يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ } [عبس: 34-35].
وبالجملة: لا يلتفت أحد إلى أحد من شدة هوله وشغله بحاله إلى حيث { يُبَصَّرُونَهُمْ } وينبهون عليهم من حال أقاربهم؛ ليرقوا لهم، وهم لا يتلفتون إليهم ولا يرقون لهم، بل { يَوَدُّ } ويحب { ٱلْمُجْرِمُ } حينئذٍ متمنياً { لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ } [المعارج: 11] الذين هم أحب وأعز عليه من نفسه في دار الدنيا.
{ وَ } كيف لا يود أن يفتدي بأحب الناس إليه بعد بنيه { صَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ } [المعارج: 12]؟!
{ وَفَصِيلَتِهِ } أقاربه وعشائره { ٱلَّتِي } تؤؤيه؛ أي: تضمه إلى نفسه وقت حلول الشدائد ونزول الملمات، بل { تُؤْوِيهِ } [المعارج: 13].
{ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } يعني: بل يود ويرضى أن يفتدي عن نفسه جميع من في الأرض من الثقلين { ثُمَّ يُنجِيهِ } [المعارج: 14] من عذاب ذلك اليوم الهائل.
{ كَلاَّ } وحاشا أن ينقذ وينجى المجرم بأمثال هذه الافتداءات من عذاب الله، بل كل نفس رهينة بما كسبت { إِنَّهَا } أي: النار المسعرة التي اسمها { لَظَىٰ } [المعارج: 15] أي: ذات لهب والتهاب تلتهب دائماً.
{ نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ } [المعارج: 16] أي: تنزع من شدة التهابها الأطراف عن أماكنها، سيما جلدة الوجه والرأس.
وبالجملة: { تَدْعُواْ } وتجذب إلى نفسها { مَنْ أَدْبَرَ } عن الإيمان، ولم يقبل عن قبول الدعوى { وَتَوَلَّىٰ } [المعارج: 17] أي: انصرف عن الطاعة وإطاعة الدَّاعي.
{ وَ } مع ذلك { جَمَعَ } مالاً عظيماً من حطام الدنيا { فَأَوْعَىٰ } [المعارج: 18] أي: فجعله في وعاء، وكنزه من غاية حرصه وأمله، ولم ينفق في سبيل الله؛ لعدم وثوقه بكرم الله.