التفاسير

< >
عرض

وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً
١٤
وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً
١٥
وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً
١٦
لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً
١٧
وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً
١٨
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً
١٩
قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُواْ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً
٢٠
قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً
٢١
قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً
٢٢
-الجن

تفسير الجيلاني

{ وَأَنَّا } بعدما سمعنا الهدى والرشد ما كنا نؤمن ونهتدي جميعاً، بل { مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ } المنقادون لحكم الله، وأوامره ونواهيه الواردة في كتابه، المسلمون أمورهم كلها إليه سبحانه { وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ } الجاهلون المائلون عن الهداية، المنحرفون عن جادة العدالة الإلهية { فَمَنْ أَسْلَمَ } منَّا، واعتدل وسلم { فَأُوْلَـٰئِكَ } المسلمِمون المسلِّمون { تَحَرَّوْاْ } واجتهدوا ففازوا { رَشَداً } [الجن: 14] يوقظهم عن سِنة الغفلة، ويوصلهم إلى فضاء الوحدة.
{ وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ } الجائرون الحائرون في تيه الطغيان والكفران { فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ } البعد والخذلان، وسعير الطرد والحرمان { حَطَباً } [الجن: 15] توقد بهم النار، كما توقد بعصاة الإنس وطغاتهم.
ثمَّ قال سبحانه: { وَأَلَّوِ } أي: وأن الشأن والأمر أنه؛ أي: الجن والإنس المجبولين على فطرة التكليف { ٱسْتَقَامُواْ } واعتدلوا { عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ } أي: جادة المعرفة والتوحيد { لأَسْقَيْنَاهُم } تلطفاً لهم، وترحماً عليهم { مَّآءً } محيياً لأراضي أجسامهم الميتة بسموم الإمكان، وبحموم الأماني الصاعدة من نيران الطبيعة { غَدَقاً } [الجن: 16] كثيراً إلى حيث يجعل لهم روضة من رياض الجنان.
وإنما فعلنا معهم ذلك { لِّنَفْتِنَهُمْ } ونختبرهم { فِيهِ } أي: في التنعم والترفه، كيف يشكرون للنعم؟ وكيف يواظبون على أداء حقوق الكرم؟ ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ويزيد عليها { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ } وينصرف عن طاعته وعبادته، ويكفر بنعمه، ولم يواظب بأداء حقوق كرمه { يَسْلُكْهُ } ويدخله { عَذَاباً صَعَداً } [الجن: 17] يصعد عليه، ويعلو فوقه، وبالجملة: عذاباً شاقاً شديداً، قاهراً عليه عالياً.
ثمَّ قال سبحانه على سبيل التوجيه والتعليم لخُلَّص عباده المؤمنين، والتوبيخ والتعريض للمشركين: { وَ } اعلموا أيها المكلفون من الثقلين { أَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ } المبنية؛ للميل والتقرب نحو الحق مختصة { لِلَّهِ } خاصة خالصة { فَلاَ تَدْعُواْ } وتعبدوا فيها { مَعَ ٱللَّهِ } الواحد الأحد الصمد، المنزه عن الشريك والولد { أَحَداً } [الجن: 18] عن مظاهره ومربوباته.
{ وَ } بعدما علمتم هذا بتعليم الله إياكم اعلموا { أَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ } أي: النبي المؤيَّد من عنده سبحانه بأنواع العناية والكرامة المستلزمة لأنواع العبادة والإطاعة في المسجد الحرام المعدّ؛ لعباده العليم العلاَّم، القدوس السلام { يَدْعُوهُ } ويعبده، ويتذلل نحوه { كَادُواْ } وقاربوا مشركي الجن والإنس { يَكُونُونَ عَلَيْهِ } ويزدحمون حوله متعجبين { لِبَداً } [الجن: 19] متراكمين، كلبدة الأسد، وهو مستغرق في صلاته بلا التفات منه إليهم إلى أن أوحى إليه بما هم عليه من التعجب والتحير من أمرهم.
فقيل له من قِبَل الحق: { قُلْ } يا أكمل الرسل للمزدحمين المتعجبين: { إِنَّمَآ أَدْعُواْ } وأعبد { رَبِّي } الذي ربَّاني على كمال المعرفة والإيقان، وأرسلني أن أدعو عموم المكلفين إلى توحيده { وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ } ومعه { أَحَداً } [الجن: 20] من مظاهره ومصنوعاته.
فإن قالوا: هل لك أن تشاركنا معك في عبادتك وخضوعك؟ { قُلْ } لهم يا أكمل الرسل: { إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ } من تلقاء نفسي { ضَرّاً } يضركم به ويعذبكم إن أردت إضراركم وتعذيبكم { وَلاَ رَشَداً } [الجن: 21] يرشدكم به ويهديكم إن أردت هدياتكم ورشادكم، بل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً، فكيف لكم؟! بل ما
{ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ } [الأنعام: 50] والأمر بيد الله العليم الحكيم.
فإن قالوا: ما فائدة عبادتك وتخصيصها أياه؟ { قُلْ } لهم يا أكمل الرسل: لمَ لمْ أعبد ربي، ولم أخصصه بالعبادة، مع { إِنِّي } أعلم منه سبحانه أنه { لَن يُجِيرَنِي } ويحفظني ويمنعني { مِنَ } عذاب { ٱللَّهِ } المنتقم الغيور { أَحَدٌ } من مظاهره، لو أراد عذابي { وَلَنْ أَجِدَ } أبداً { مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } [الجن: 22] ملجأً وملاذاً ينقذني من بطشه وعذابه، لو جرى مشيئته سبحانه على تعذيبي؟!
وبالجملة: لا أملك لكم، ولا لنفسي ضراً ولا نفعاً.