التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ
١
قُمْ فَأَنذِرْ
٢
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ
٣
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ
٤
وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ
٥
وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ
٦
وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ
٧
فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ
٨
فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ
٩
عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ
١٠
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً
١١
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً
١٢
وَبَنِينَ شُهُوداً
١٣
وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً
١٤
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ
١٥
كَلاَّ إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً
١٦
سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً
١٧
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ
١٨
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
١٩
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
٢٠
ثُمَّ نَظَرَ
٢١
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ
٢٢
ثُمَّ أَدْبَرَ وَٱسْتَكْبَرَ
٢٣
فَقَالَ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ
٢٤
-المدثر

تفسير الجيلاني

{ يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } [المدثر: 1 والمتدثر: المتغطي بملابس الطبيعة، وثياب الإمكان الموجبة لأنواع الخسران والحرمان.
{ قُمْ } من عالم الطبيعة، واخرج عن مضيق بقعة الإمكان بعدما كشفت طلائع فضاء اللاهوت، وبعدما خلصت من سجن عالم الناسوت { فَأَنذِرْ } [المدثر: 2] عموم بني نوعك؛ أي: المحبوسين في سجن الإمكان، المقيدين بسلاسل الزمان، وأغلال المكان عن دركات النيران، وأودية الضلالات والجهالات في النشأة الأولى والأخرى.
{ وَ } خصص { رَبَّكَ } الذي ربَّاك على فطرة المعرفة والإيقان بأنواع التجبيل والتعظيم { فَكَبِّرْ } [المدثر: 3] ذاته تكبيراً كاملاً إلى حيث لا يخطر ببالك معه شيء؛ إذ هو المتعزز برداء العظمة والكبرياء، لا شيء سواه.
وبعدما انكشفت بوحدة ربك، وكبرته تكبيراً لائقاً بشأنه { وَثِيَابَكَ } التي هي ملابس بشريتك { فَطَهِّرْ } [المدثر: 4] عن أوساخ الإمكان، وقذر عالم الطبيعة والهيولي، فإن طهارتك عنها واجبة عليكم في ميلك إلى مقصد الوحدة.
{ وَٱلرُّجْزَ } أي: الرجز العارض لبشريتك من التقليدات الموروثة، والتخمينات المستحدثة من الآراء الباطلة، والأهواء الفاسدة المكدرة لصفاء مشرب التوحيد واليقين من الأخلاق الرديئة، والملكات الغير مرضية من الشهوية والغضبية المترتبة على القوى البهيمية إلى غير ذلك من القبائح الصورية والمعنوية.
{ فَٱهْجُرْ } [المدثر: 5] أي: جانِب وافترق؛ ليمكنك التخلق بأخلاق الله، والاتصاف بأوصافه.
ومن جملة الأخلاق المذمومة، بل من معظمها: المنة على الله بالطاعة وفعل الخيرات، وعلى عباده بالتصدق والإنفاق عليهم.
{ وَ } إذا سمعت { لاَ تَمْنُن } على الله مباهياً بطاعتك، وعلى عباده تفوقاً عليهم { تَسْتَكْثِرُ } [المدثر: 6] وتستجلب نعم الله على نفسك وإحسانه عليك، وامتنانه لك بما لا مزيد عليه، أو المعنى: { لاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } أي: لا تعط أحداً شيئاً على نية أن تستكثر وتتعوض منه بدله أكثر مما أعطيته، على مقتضى القراءتين.
{ وَ } بالجملة: { لِرَبِّكَ } الذي ربَّاك على الخُلق العظيم { فَٱصْبِرْ } [المدثر: 7] على مشاق التكاليف، ومتاعب الطاعات والعبادات، وعلى أذيات المشركين حين تبليغ الدعوة إياهم، وإيصال الوحي إليهم.
وبعدما سمعت يا أكمل الرسل من الوصايا ما سمعت، امتثل بها واتصف بمقتضاها اتقاءً عن يوم الجزاء.
{ فَإِذَا نُقِرَ } ونُفخ { فِي ٱلنَّاقُورِ } [المدثر: 8] أي: الصور المصور؛ لتصويت الأموات؛ ليبعثوا من قبورهم أحياءً كما كانوا، ثمَّ نُقر ثانياً؛ ليحشروا إلى المحشر، ويحاسبوا بين يدي الله، ثمَّ يجازوا على مقتضى ما يحاسب، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
{ فَذَلِكَ } أي: وقت النقر الثاني للحشر والوقوف بين يدي الله { يَوْمَئِذٍ } أي: يوم القيامة { يَوْمٌ عَسِيرٌ } [المدثر: 9].
{ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } إذ عسر عليهم حينئذٍ الأمر، واشتد الهول، وتشتتت أحوالهم واضطربت قلوبهم، وبالجملة: { غَيْرُ يَسِيرٍ } [المدثر: 10] عليهم حسابهم؛ لذلك عسر عليهم.
وبعدما سمعت قيام يوم القيامة وتنقيد الأعمال فيها، والجزاء عليها، لا تستعجل يا أكمل الرسل لانتقام المشركين المسرفين، ولا تعجل عليهم، بل { ذَرْنِي } يا أكمل الرسل { وَمَنْ خَلَقْتُ } أي: مع شخص خلقته { وَحِيداً } [المدثر: 11] متفرداً من أهل عصره، مفروزاً منهم بكثرة الأموال والأولاد، والثروة والجاه، إلى حيث لُقب بين قومه بريحانة قريش؛ يعني: وليد بن المغيرة.
{ وَجَعَلْتُ لَهُ } توسيعاً عليه، وامتناناً له { مَالاً مَّمْدُوداً } [المدثر: 12] كثيراً وافراً، متزايداً يوماً فيوماً بالتجارة والنتاج والزراعة وغير ذلك.
{ وَبَنِينَ شُهُوداً } [المدثر: 13] حضوراً معه دائماً، لا ينفصلون عنه زماناً؛ لاستغنائهم عن التجارة والحراثة وسائر المصالح؛ لكثرة خدمهم وحشمهم، بحيث لا احتياج لهم من تهيئة أسبابهم إلى ترددهم بأنفسهم؛ لذلك يحضرون معه في جميع المحافل والمجالس، والأندية تكميلاً لثروته ووجاهته.
{ وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } [المدثر: 14] أي: بسطت له بسطاً واستيلاءً، يتحسر ويتحسد بحاله جميع بطون العرب وأفخاذه.
ومع تلك الوجاهة العظمى، والكرامة الكبرى الموهوبة له لم يشكر عليَّ، ولم يرجع إليَّ قط { ثُمَّ يَطْمَعُ } ويرجو { أَنْ أَزِيدَ } [المدثر: 15] على ما آتيته وأعطيته من النعم العظام، مع أنه مصر على الكفر الكفران، وأنواع الفسوق والعصيان.
{ كَلاَّ } أي: كيف أزيد عليه، مع أن كفرانه وطغيانه يوجب ويقتضي زوال ما أُعطي به، وكيف لا يوجبه { إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا } الدالة على كمال عظمتنا، واقتدارنا على أنواع الإنعام والانتقام { عَنِيداً } [المدثر: 16] معانداً منكراً، وعناده أمارة زوال ماله وثروته وجاهه؟!
وبالجملة: { سَأُرْهِقُهُ } أي: سأغشيه وأكلفه بالعنف في النشأة الأخرى { صَعُوداً } [المدثر: 17] عقبة شاقة المصعد والمهوى، فأكلفه على الصعود والهبوط دائماً، بحيث لا نجاة منها، وعنه صلى الله عليه وسلم:
"الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفاً، ثمَّ يهوى فيه كذلك أبداً" ، وهو مثل لما يلقى من الشدائد.
وكيف لا أكلفه بصعود الصعود وهبوطه { إِنَّهُ } من شدة شكيمته، وخباثة طينته { فَكَّرَ } في آيات القرآن على وجه التدبر فلم يجد فيه طعناً وقدحاً { وَ } بعدما لم يجد ما يصلح للطعن { قَدَّرَ } [المدثر: 18] في نفسه على مقتضى خباثته ما ينفق به، ويقول فيه على سبيل القدح؟!
ثمَّ قال سبحانه على سبيل التعجب من إفكه وتقديره: { فَقُتِلَ } أي: لُعن وطُرد { كَيْفَ قَدَّرَ } [المدثر: 19] له قدحاً، مع أن القرآن منزه عن القدح مطلقاً؟!
{ ثُمَّ قُتِلَ } ذلك المعاند الطاغي { كَيْفَ قَدَّرَ } [المدثر: 20] ما هو بعيد عن شأن القرآن بمراحل؟! كرره سبحانه مبالغةً في التعجب والاستبعاد.
{ ثُمَّ نَظَرَ } [المدثر: 21] كرة بعد أولى، ومرة بعد أخرى في أمر القرآن { ثُمَّ } لمَّا لم يجد فيه طعناً، مع أنه من أرباب اللسن والفصاحة { عَبَسَ } أي: قطب وجهه وكلح، واستكره كراهة شديدة { وَبَسَرَ } [المدثر: 22] اهتم وبالغ في وجدان القدح اهتماماً بليغاً فلم يجد، وأيس ملوماً مخذولاً.
{ ثُمَّ } بعدما دبر مراراً فلم يجد { أَدْبَرَ } عن الإيمان بعدما أشرف على الإقبال بالإيمان والقبول { وَ } ما حمله على الإدبار إلى أنه { ٱسْتَكْبَرَ } [المدثر: 23] واستحيى عن أتِّباعه.
وبالجملة: { فَقَالَ } بعد اللتيا والتي { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } [المدثر: 24] أي: يُروى ويُتعلم.