التفاسير

< >
عرض

إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ
٢٥
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ
٢٦
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ
٢٧
لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ
٢٨
لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ
٢٩
عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ
٣٠
وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلَٰئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِيمَٰناً وَلاَ يَرْتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ
٣١
-المدثر

تفسير الجيلاني

{ إِنْ هَـٰذَآ } أي: ما هذا { إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ } [المدثر: 25] ما هو من الوحي وكلام الله، كما ادَّعاه محمد صلى الله عليه وسلم مفترياً على الله.
رُوي أنه مر الوليد بن المغيرة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ: حم السجدة، فسمعه بسمع الرضا متدرباً بأسلوبه، ثمَّ أتى قومه فقال: لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من جنس كلام الإنس والجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه، ثمَّ خرج.
فقالت قريش: والله، قد صبأ الوليد، ولتصبون قريش كلهم، فقال ابن أخيه أبو جهل: أنا أكفيكموه، فجلس إلى جنبه حزيناً، فقال: ما لي أراد حزيناً يا ابني أخي؟ فقال هذه قريش يجمعون لك نفقة، يعينونك على كبر سنك، يزعمون أنك زيَّنت كلام محمد؛ لتنال من فضل طعامه.
فغضب الوليد فقال: لم تعلم قريش أني أكثرهم مالاً وولداً، وهل يشبع محمد وأصحابه أن يكون لهم فضل؟! ثمَّ قام مع أبي جهل حتى أتى قومه، فقال: تزعمون أن محمداً مجنون، فهل رأيتموه يتجنن قط؟ قالوا: اللهم لا، ثمَّ قال: تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه يتكهن قط؟ قالوا: لا، ثمَّ قال: تزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه ينطق بالشعر قط؟ قالوا: اللهم لا، ثمَّ قال: تزعمون أنه كذَّاب، فهل جريتم عليه شيئاً من الكذب؟ قالوا: اللهم لا.
ثمَّ سكت، قالت قريش: فما هو؟ فتكفر في نفسه، وقدر في نجواه، ثمَّ قدر، فقال: ما هو إلاَّ ساحر، أما رأيتموه يفرق بين المرء وأهله، وولده ومواليه، وما يقوله مفترياً إلى ربه سحر يؤثر؟.
فقال تعالى زجراً عليه، وجزاءً له: { سَأُصْلِيهِ } وادخله { سَقَرَ } [المدثر: 26].
{ وَمَآ أَدْرَاكَ } وأعلمك يا أكمل الرسل { مَا سَقَرُ } [المدثر: 27] وما شأنها؟ أبهمها تفخيماً وتهويلاً.
وغاية ما يدرك من شأنها: إنها { لاَ تُبْقِي } شيئاً يقع فيها، بل تهلكة { لاَ تَذَرُ } مع إهلاكه وإفنائه { وَ } [المدثر: 28] ولا تدع على هلاكه وفنائه، بل يوجده الله بكمال قدرته، ثمَّ يهلكه، ثمَّ يوجده فتهلكه أبداً كذلك.
وأيضاً من شأنها: إنها { لَوَّاحَةٌ } مسودة؛ من شدة إحراقها { لِّلْبَشَرِ } [المدثر: 29] أي: الشرة التي هي عبارة عن ظاهر الجلد.
وأيضاً من شأنها: إنها { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } [المدثر: 30] أي: تسعة عشر من الزَّبانية الموكلة عليه بإذن الله، وهي من الملائكة أو شبيهة بهم.
إنما اختص هذا العدد؛ لأن الأعمال الفاسدة، والأفعال القبيحة الموجبة للدخل في سقر إنما يكتسب بالقوى البهيمية، والقوى الطبيعية، أمَّا القوى البهيمية فاثني عشر: الشهوية، والغضبية، والحواس الظاهر والباطنة، وأمَّا القوى الطبيعية فسبع: الجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة، والغاذية، والنامية، والمولدة.
وبالجملة: يصور السقر من مقتضيات هذه القوى، ويوكل عليها من زواجر الزَّبانية على عدد مأخذها عدلاً منه سبحانه؛ لينزجر كل من القوى بزاجر يناسبها.
ولمَّا نزلت قال أبو جهل: ثكلتكم أمهاتمكم بخبر ابن أبي كبشة، إن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدُّهم؛ أي: الشجعان، أتعجز كل عشر أن تبطش بواحد منهم؟!
وبعدما قالوا ما قالوا على سبيل التهكم أنزل سبحانه: { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ } وخزنتها { إِلاَّ مَلَٰئِكَةً } أقوياء، قوتهم لا تُقاس بالقوى البشرية، بل لا يقاوم جميع من على الأرض بواحد من الملك في القوة والصولة { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ } أي: عددهم المذكور { إِلاَّ فِتْنَةً } اختباراً وابتلاءً؛ أي: سبب اختبار افتتان لهم، يفتنون بهذا العدد، تارة يستقلون، وتارة يستبعدون ويتعجبون من مقاومة هؤلاء المعدودين بعموم العباد المستحقين لدخول السقر من الثقلين، وبالجملة: يستهزئون بهذا القول، ويضحكون منه، وإنما أنزلنا هذه الآية، وخصصنا هذا العدد وهؤلاء المعدودين { لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ } أي: ليكتسبوا اليقين، ويجزموا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبصدق القرآن وحقيته؛ لأن هذا ليس ببدع منَّا في هذا الكتاب، بل أنزلنا كذلك في سائر كتبنا.
ولمَّا وجدوه موافقاً لما كتبهم تيقنوا بصدق القرآن ونبوة النبي صلى الله عليه وسلم { وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِيمَٰناً } على إيمانهم؛ أي: يرسخ إيمانهم، ويتأكد بتصديق أهل الكتاب كتابهم ونبيهم { وَ } بعدما استيقنوا واستقاموا على اليقين، وتمكنوا فيه { لاَ يَرْتَابَ } ويشك { ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ } في حقية هذا الكتاب وهذا النبي المؤيد به { وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } شك وارتياب في حقية هذا الكتاب والنبي من أهل النفاق.
{ وَٱلْكَٰفِرُونَ } الجاحدون الجازمون في التكذيب، المجاحدون بالإنكار صريحاً: { مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا } أي: أيّ شيء أراد بهذا العدد المستغرب المستبعد، إلى حيث صار في الاستغراب والاستبعاد { مَثَلاً } سائراً بين الناس يستعملونه ويتداولونه، مستبعدينه ومستهزئين { كَذَلِكَ } أي: مثلما سمعت يا أكمل الرسل من استيقان البعض، واستنكار البعض الآخر بهذا العدد المذكور { يُضِلُّ ٱللَّهُ } العليم الحكيم بمقتضى قهره وجلاله { مَن يَشَآءُ } إضلاله من عباده، وأراد مقته وضلاله { وَيَهْدِي } بمقتضى لطفه وجماله { مَن يَشَآءُ } إذ هو فاعل على الإطلاق بالإرادة والاختيار والاستحقاق.
{ وَ } بالجملة: { مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ } يا أكمل الرسل؛ أي: مظاهر لطفه وقهره، وجماله وجلاله { إِلاَّ هُوَ } إذ هو المستقل بالإحاطة والشمول، لا يعزب عنه شيء من الأصول والفروع؛ إذ لا سبيل للعباد إلى إحصاء أوصافه وأسمائه التي تترتب عليها مظاهره ومصنوعاته، ما للعباد ورب الأرباب { وَ } بالجملة: { مَا هِيَ } أي: ذكر السقر ووصفها، وعدة الخزنة عليها { إِلاَّ ذِكْرَىٰ } أي: عظة وتذكرة نازلة من قِبَل الحق { لِلْبَشَرِ } [المدثر: 31] المجبولين على العبرة والنظر، المكلفين بجلب النفع ودفع الضر، وبالحذر عن مقتضى القهر والجلال، والركون إلى مقتضى اللطف والجمال.