التفاسير

< >
عرض

فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ
٤٨
فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ
٤٩
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ
٥٠
فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ
٥١
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً
٥٢
كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ ٱلآخِرَةَ
٥٣
كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ
٥٤
فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ
٥٥
وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ
٥٦
-المدثر

تفسير الجيلاني

وبالجملة: { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } [المدثر: 48] حين أُخذوا بظلمهم، لو شفَّعوا لهم جميعاً.
{ فَمَا لَهُمْ } وأيّ شيء عرض لهم ولحق بهم، مع أنهم مجبولون على فطرة التوحيد واليقين، حتى صاروا { عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ } التي هي آيات القرآن المبيِّنة لسرائر التوحيد والعرفان { مُعْرِضِينَ } [المدثر: 49] منصرفين على سبيل الإنكار والاستكبار.
وبالجملة: { كَأَنَّهُمْ } في هذا الإعراض والنفرة المتفرعة لغاية السخافة، ونهاية البلادة { حُمُرٌ } هي مثل في البلادة المتناهية { مُّسْتَنفِرَةٌ } [المدثر: 50] من شدة رعبها وخوفها.
سيما حين { فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } [المدثر: 51] أشد صائل عليها، شبَّه نفرتهم عن التذكر بآيات القرآن حسداً وحميةً جاهليةً بالحُمُر المستنفرة من الأسد، والجامع بينهما، البلادة المتناهية، بل هم أسوأ حالاً من الحُمُر؛ إذ الحُمُر فرت من العدو؛ خوفاً من ضرره، وهؤلاء فروا من الحق المشفق، النافع لهم نفعاً صورياً ومعنوياً، وما حملهم وأوقعهم على فتنة الاستنفار والاستنكاف إلاَّ حميتهم وغيرتهم الجاهلية، بأن لم يؤمنوا بما نزل على غيرهم.
{ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ } له من قِبَل الحق { صُحُفاً } قراطيس مدونة { مُّنَشَّرَةً } [المدثر: 52] تنشر وقت القراءة، ثمَّ تُطوى، كالصكوك والسجلات؛ لذلك قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لن نتبعك حتى تأتي كلاًّ منَّا بكتاب من السماء مكتوب فيها: من الله إلى فلان، اتَّبع محمداً، فإنه نبي صادق.
ثمَّ قال سبحانه: { كَلاَّ } ردّاً عليهم، وردعاً لهم عن الإعراض عن الإيمان والتذكر، لا عن امتناع المقترح، فإنه لا يستحيل على الله شيء، لو تعلق به مشيئتهم { بَل لاَّ يَخَافُونَ ٱلآخِرَةَ } [المدثر: 53] ولم يؤمنوا لها؛ لذلك أعرضوا عن التكذرة.
{ كَلاَّ } أي: كيف يتأتى لهم الإعراض عن التذكرة { إِنَّهُ } أي: القرآن: { تَذْكِرَةٌ } [المدثر: 54] وأيّ تذكرة وتبصرة؟!
{ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } [المدثر: 55] أي: أيّ شيء اتعظ وتذكر به فقد هدى واهتدى إلى الله.
{ وَ } غاية ما في الباب: إنه { مَا يَذْكُرُونَ } ويتذكرون به { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } تذكّرهم وهدايتهم؛ إذ أفعال العباد كلها مستندة إليه سبحانه، مخلوقة له، وكيف لا يفوَّض إلى مشيئته سبحانه عموم أمور العباد، مع أنه { هُوَ } بذاته، ومقتضى أسمائه وصفاته { أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ } وأحق من أن يتقى من انتقامه وقهره؛ إذ هو المقتدر على وجوه الانتقام { وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ } [المدثر: 56] حقيق بأن يُرحى منه العفو والغفران، سيما على المتقين المستغفرين؛ إذ هو المقتدر بالاستقلال على عموم الإنعام والانتقام، والإكرام؟!
جعلنا الله من زمرة أهل التقوى والمغفرة بمنِّه وجوده.
خاتمة السورة
عليك أيها المريد المحقق، المتحقق بسر سريان الوحدة الذاتية في عموم المظاهر، وباستقلال الوجود في عموم الآثار الظاهرة في الأنفس والآفاق أن تذعن وتعرف أن جميع الأفعال الجارية في عالم الغيب والشهادة إنما هي مستندة إليه سبحانه، صادرة عنه أصالةً وفق الإرادة والاختيار، وإنما أظهرها سبحانه في مظاهر أسمائه، وملابس صفاته إظهاراً لكمال قدرته، ومتانة حكمته، وإحاطة علمه وإرادته، وعجائب صنعه وصنعته.
فلك أن تعتقدها على الوجه المذكور، وتجزم بها علماً إلى أن يصير علمك عيناً، وعينك حقاً، وليس وراء الله مرمى ومنتهى.
وفقنا بما أنت تحتب منَّا وترضى يا مولانا.