{ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } [القيامة: 1] أي: بوقوع الطامة الكبرى وثبوتها وقيامها؛ إذ هي من غاية ظهورها وجلائها غنية عن أن يؤكَّد أمر وقوعها وقيامها بالقسم عند العارف المحقق المتحقق بقمام التوحيد واليقين.
{ وَلاَ أُقْسِمُ } أيضاً { بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ } [القيامة: 2] أي: وكذا لا حاجة إلى القسم بظهور النفس اللوامة في عالم الكون الفساد؛ إذ كل نفس من النفوس الكائنة تعلم أن العالم ما هو إلاَّ سراب باطل وعكس زائل عاطل، لا قرار له، ولا مدار لها فيه، وتلوم دائماً نفسها عليها، إلاَّ أنها لا تتنبه على سلطنة الوحدة، ولا تتفطن بسرايتها واستيلائها على عموم ما ظهر وبطن، وغاب وشهد، حتى تصير لوَّامة، مطمئنة راضية، وراضيته مرضية، مرضيته فقيرة، وفقيرته فانية، وفانيته باقية، وليس وراء ذلك مرمى ومنتهى.
أدركنا بلطفك الخفي يا خفي الألطاف.
ثمَّ التفت سبحانه نحو حقيقة الإنسان المجبول نحو فطرة العرفان حسب حصة لاهوته، ووبَّخه بما وبَّخه تشنيعاً وتقريعاً، فقال: { أَيَحْسَبُ } ويظن { ٱلإِنسَانُ } المجبول على الكفران والنسيان { أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } [القيامة: 3] أي: إنَّا لا نقدر مع كمال قدرتنا على إبدائه وإبداعه على إعادته، وجمع عظامه مرة بعد أخرى في يوم البعث والجزاء؟!
{ بَلَىٰ } أي: نحن نقدر على إعادته، وجمع عظامه، وتسوية جميع أعطائه على الوجه الذي كان، بل { قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } [القيامة: 4] أي: سلاميه على وجهها، وخص بالذكر؛ لأن جميع أجزائها أصعب من سائر الجسد؛ لاشتمالها على دقائق العظام ورقائق العروق والأعصاب، والغضاريف والرباطات المعينة على القبض والبسط، والأخذ والبطش، ولصعوبة الاطلاع على أجزائها عجز الأطباء عن تشريحها؛ يعني: إنَّا نقدر على جمعها مع صعوبتها، فكيف نجمع غيرها؟!
{ بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ } المركَّب من الجهل والنسيان بظنه وحسبانه { لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } [القيامة: 5] أي: يدوم ويمضي دائماً على الفجور والفسوق، والخروج عن مقتضى الحدود الإلهية فيما يستقبله من الزمان، كما كان عليها فيما مضى.
لذلك { يَسْأَلُ } سؤال إنكار واستعباد: { أَيَّانَ } أي: متى يقوم، وأيّ آن يقع { يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ } [القيامة: 6] التى تبلى السرائر، وتكشف الستائر فيها؟.
بيِّن لي أيها المدعي وقت وقوعه؛ حتى أكف وأمنع نفسي عن الفجور، وأتوب عنها يقيناً وثقةً، إنما قال على سبيل الاستهزاء والتهكم.
وكيف يستهزئ ويصر على الإنكار ذلك المستزئ المسرف المصر؟! { فَإِذَا بَرِقَ } وتحير { ٱلْبَصَرُ } [القيامة: 7] أي: حاسة عالم الناسوت وجاسوسه حين ظهرت طلائع عالم اللاهوت فزعاً وهولاً، ودهشاً مما يرى من العجائب والغرائب الموعودة التي كان ينكر ويكذّب بها في دار الدنيا وبقعة الإمكان.
{ وَ } مع ذلك { خَسَفَ ٱلْقَمَرُ } [القيامة: 8] أي: ذهب ضوء الوجود الإضافي المستعار، وانمحى نوره، وأشرف على الأفول في أفق العدم.
{ وَ } حينئذٍ { جُمِعَ ٱلشَّمْسُ } أي: ظهر نور الوجود المطلق المستغني عن عموم المظاهر والمجالي { وَٱلْقَمَرُ } [القيامة: 9] أي: اندرج ضوء الوجود الإضافي المنعكس منها، واندمج فيها، ولم يبق له كون ولا لون، ولا بين ولا بون.
وبعد رجوع الكل إليها، وانطماسها فيها، وانقهارها دونها { يَقُولُ ٱلإِنسَانُ } المنعزل عن اليقين والعرفان { يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ } [القيامة: 10] والملجأ؛ حتى أفر إليه، وألجأ نحوه؟.
{ كَلاَّ } وحاشا أن يكون له حينئذٍ ملجأ ومقر في الوجود حتى يطلبه؛ إذ { لاَ وَزَرَ } [القيامة: 11] أي: لا حصن ولا ملجأ، ولا حرز ولا مخلِّص له يومئذٍ، بل في عموم الأوقات والأزمان عند العارف غير الحق؛ إذ لا شيء في الوجود سواه.
فثبت أنه { إِلَىٰ رَبِّكَ } يا أكمل الرسل، وإلى كنف حفظه وجواره { يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ } [القيامة: 12] أي: لا مقر حينئذٍ لعموم العباد إلاَّ عنده سبحانه، ولا مرجع لهم سواه.
وبعد رجوع الكل إليه سبحانه، وحضوره دونه { يُنَبَّأُ } ويخبر { ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ } من الأعمال الصالحة، وأتى بها { وَ } بما { أَخَّرَ } [القيامة: 13] منها، ولم يأت بها وتركها، بل أتى بأضدادها على التفصيل بلا فوت شيء منها.
{ بَلِ } لا حاجة حينئذٍ إلى الإنباء والإخبار بما صدر عنه؛ إذ { ٱلإِنسَانُ } له حينئذٍ { عَلَىٰ نَفْسِهِ } وبما صدر عنه من الأعمال الصالحة والطالحة { بَصِيرَةٌ } [القيامة: 14] كاملة وبيِّنة، واضحة موضحة؛ إذ يشهد له وعليه حينئذٍ جوارحه وآلاته التي اقترف بها ما اقترف من الحسنات والسيئات.
بحيث { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ } [القيامة: 15] أي: جميع ما يعتذر به من الأعذار الكاذبة، لم يسمع مع حضور الشهود والعدول التي هي أعضاؤه وجوارحه، بل يعامل معه بمقتضى ما يحاسب عليه، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.