التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ
٢٦
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ
٢٧
وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ
٢٨
وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ
٢٩
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ
٣٠
فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ
٣١
وَلَـٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
٣٢
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ
٣٣
أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ
٣٤
ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ
٣٥
أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى
٣٦
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ
٣٧
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ
٣٨
فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ
٣٩
أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ
٤٠
-القيامة

تفسير الجيلاني

{ كَلاَّ } أي: كيف تحبون وتختارون اللذة الفانية العاجلة على الباقية الآجلة؟! أمَا تتذكرون { إِذَا بَلَغَتِ } النفس، وعزمت على التوديع والخروج { ٱلتَّرَاقِيَ } [القيامة: 26] أي: عالم الصدر قريب المخرج؟!
{ وَقِيلَ } حينئذٍ في حقه؛ أي: الملائكة الموكلون على الموت، مستفهمين فيما بينهم على سبيل المشورة: { مَنْ } من { رَاقٍ } [القيامة: 27] منَّا، قابض روحه، أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟.
{ وَ } حينئذٍ { ظَنَّ } بل جزم المختصر { أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ } [القيامة: 28] والافتراق عن الدنيا، وما فيها من عموم اللذات والشهوات المحبوبة فيها.
{ وَ } بعدما جزم بفراق الأحبة { ٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ } [القيامة: 29] أي: التولت ساقه باسقه من كمال ضجرته وأسفه، فلا يقدر حركتها وتحريكها.
وبالجملة: { إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ } [القيامة: 30] أي: سوقه إليه، ورجوعه نحوه، وحكمه عنده، وحسابه عليه.
وبالجملة: إذا سُئل الإنسان حينئذٍ عمَّا أُمر له ونهي عنه في النشأة الأولى، كيف يجيب، مع أنه { فَلاَ صَدَّقَ } على من أُمر بتصديقه، ولا قَبِل منه ما هو صلاحه في دينه { وَلاَ صَلَّىٰ } [القيامة: 31] ومال إلى الله في الأوقات المكتوبة المقدَّرة للتوجه والرجوع نحوه سبحانه؟!
{ وَلَـٰكِن } عكس الأمر؛ إذ { كَذَّبَ } على من أُمر بتصديقه { وَتَوَلَّىٰ } [القيامة: 32] أي: انصرف وأعرض عن الطاعات المأمورة به.
{ ثُمَّ } بعد انصرافه وإعراضه عن المرشد الدَّاعي { ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ } [القيامة: 33] يتبختر فرحاناً مسروراً، مباهياً بفعلته، مفتخراً بشأنه.
قيل له حينئذٍ من قِبَل الحق مخاطباً إياه بالويل والهلاك؛ بسبب فعله هذا ومباهاته: { أَوْلَىٰ } وأليق { لَكَ } وبحالك في شأنك هذا الويل والهلاك { فَأَوْلَىٰ } [القيامة: 34] لك وبحالك الويل والهلاك.
{ ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ } كذلك { فَأَوْلَىٰ } القيامة: 35] لك كذلك تأكيداً على ذلك، وتشديداً على عذابك، ووخامة حالك ومآلك، أيها المسرف المفرط، المباهي بالإعراض والانصراف عن الإيمان والطاعات؛ المراد منه: أبو جهل، عليه اللعنة.
ثمَّ قال سبحانه على سبيل التوبيخ التهديد: { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ } المصرّ على الكفران والطغيان { أَن يُتْرَكَ سُدًى } [القيامة: 36] مهملاً لا يكلف، ولا يحاسب بعد التكليف، ولا يجازى ولا يعاقب على أفعاله، مع أنه إنم جُبل على فطرة التكليف والمعرفة، وبمقتضى حسبانه هذا أنكر البعث والجزاء، وخرج عن مقتضى الأوامر والنواهي الواردة عليه في نشأة الأختبار، مصراً على كفره وكفرانه؟!
ومن أين يتأتى له الخروج عن ربقة العبودية { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً } مهينة مرذولة، حاصلة { مِّن مَّنِيٍّ } مهين مرذول { يُمْنَىٰ } [القيامة: 37] ويصب في الرحم المرذول؟!
{ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً } قذرة في الرحم، كسائر الأقذار { فَخَلَقَ } أي: قدَّر سبحانه أعضاءه وجوارحه منها، وبعدما قدَّره وصوَّره { فَسَوَّىٰ } [القيامة: 38] أي: عَدَله وقوَّمه سبحانه بحوله وقوته، فصار جسداً ذا حس وحركة، وقوَّاه فأقامه.
{ فَجَعَلَ } وخلق بكمال قدرته، ومتانة حكمته وصنعته لمصلحة التناسل والتكاثر { مِنْهُ } أي: من ماء الإنسان ونطفته { ٱلزَّوْجَيْنِ } الصنفين { ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } [القيامة: 39] تتميماً للحكمة البالغة المتقنة.
ثمَّ قال سبحانه موبخاً مقرعاً على وجه الاستبعاد عن كفران الإنسان، وإصراره على إنكار البعث والحشر، وإعادة الأموات أحياءً كما كان: { أَلَيْسَ ذَلِكَ } القادر المقتدر الذي قدر على خلق هذه الصور المهينة الخبيثة وتبديلها، صوّرها عجيبة بديعة، قابلة لفيضان أنواع الكمالات، لائقة للخلافة والنيابة الإلهية { بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ } [القيامة: 40] مرة بعد أخرى، مع أن الإعادة أهون من الإبداء؟!
بلى، لك الإعادة والإبداء أيها القادر المقتدر على خلق الأشياء، أنت تفعل ما تشاء، وتحكم ما تريد لا تُسأل عن فعلك، إنك حميد مجيد.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المتحقق بحيطة الحق وشموله، واستقلاله في تصرفات ملكه وملكوته، وجبروته ولاهوته أن تعتقد أن قدرته الكاملة لا يعتريها كلال، ولا يعرضها فطرة ولا زوال، بل له أن يظهر ويوجد بمقتضى قدرته جميع ما ثبت وتحقق في حضرة علمه، ولوح قضائه من الصور البديعة التي لا يخطر ببالك مطلقاً، فله أن يكون ويوجد من كل ذرة عوالم ما شاء الله، وكذا يدرج العوالم الغير المحصورة في كل ذرة من ذرائر الكائنات.
وبالجملة: من وصل إلى سعة قلب الإنسان، وساحة صدره ظهر عنده أنه لا يمتنع، ولا يستحيل في جنب قدرته سبحانه وإرادته شيء من مقدوراته ومراداته مطلقاً.
فهيهات هيهات لو نظرت إلى أجزاء العالم بنظر العبرة والاستبصار، بل إلى نفسك ورقائق أعضائك وجوارحك، ودفعت الألفة والعادة عن البين، لرأيت من كل شيء وفي كل ذرة من ذرائر العالم عجائب وغرائب، لا تُعدّ ولا تُحصى.
غاية ما في الباب: إن ألفك حجبك عن هذا الإدراك، وعادتك عاقتك عن رؤية البدائع الإلهية، ولو تنوَّر بصر بصيرتك، ونظر سرك وسريرتك بكحل الاستبصار والاعتبار، لرأيت من عجائب قدرة الله، وبدائع صنعه وحكمته في كل طرفة ولمحة ما بجنبه أمر الحشر والنشر، وإعادة الأموات أحياء سهل يسير.
حققنا بحقيتك وقيوميتك يا ذا القوة المتين.