التفاسير

< >
عرض

وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ
١٥
قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً
١٦
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً
١٧
عَيْناً فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلاً
١٨
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً
١٩
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً
٢٠
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً
٢١
إِنَّ هَـٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً
٢٢
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ تَنزِيلاً
٢٣
-الإنسان

تفسير الجيلاني

{ وَ } لتكميل ترفههم وتنعمهم { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ } متخذة { مِّن فِضَّةٍ } أي: من فضة عقائدهم الصافية البيضاء، الشفافة الخالصة عن مطلق الكدورات { وَأَكْوابٍ } أبارق وكيزان لا عروة من شدة صفائها وجلائها، كأنها { كَانَتْ قَوَارِيرَاْ } [الإنسان: 15] في الرقة.
وأية قوارير { قَوَارِيرَاْ } متخذة { مِن فِضَّةٍ } من غاية صفائها وشفافها لا يُرى لها لون ولا كون، بحيث اشتبه أمرها عند الرائي؛ لذلك { قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } [الإنسان: 16] بمقتضى ما راعوا في الاعتدال في الأطوار والأخلاق.
{ وَيُسْقَوْنَ } هؤلاء المقربون { فِيهَا } أي: في تلك الأواني والأكواب { كَأْساً } خمراً من خمور المحبة والمودة { كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً } [الإنسان: 17] أي: كالزنجبيل في المساغ وسرعة الانحدار.
يعني: { عَيْناً فِيهَا } جارية بماء الحياة الأزلية الأبدية السرمدية { تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلاً } [الإنسان: 18] لهدايتها وإرشادها إلى مشرب التوحيد، وبحر الوحدة الذاتية، كأنها تلقى وتلقن تلك العين المترشحة من بحر الحياة الأزلية الأبدية لأرباب العناية بقولها: سل أيها الطالب الحائر في بيداء الطلب سبيلاً إلى الوحدة الحقيقية الحقيَّة.
{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ } تأنيساً لهم وتصحيباً { وِلْدَانٌ } حسان، مصورون من أعمالهم وأحوالهم { مُّخَلَّدُونَ } دائمون على صباحتهم وحسنهم، بحيث { إِذَا رَأَيْتَهُمْ } إيها المعتبر الرائي { حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } [الإنسان: 19] من صفاء ألوانهم، ومقبولية هيكالهم، وصباحة خدهم، ورشاقة قدَّهم، وانعكاس أشعة وجوههم من كمال اللطافة والطراوة والصفاء المفرط.
{ وَ } بالجملة: { إِذَا رَأَيْتَ } أيها المعتبر الرائي { ثَمَّ } أي: في الجنة { رَأَيْتَ } ما رأيت، وما أدراك ما رأيت، رأيت { نَعِيماً } وأيّ نعيم، نعيماً لا يكتنه غوره وطوره { وَمُلْكاً } وأيّ ملك، ملكاً { كَبِيراً } [الإنسان: 20] وسيعاً فسيحاً، لا يدرك وسعته وقدره، ولا يكتنه طوره وغوره.
ومع ذلك { عَالِيَهُمْ } أي: يعلو عليهم فيها تعظيماً لهم تكريماً { ثِيَابُ سُندُسٍ } رقيق من الديباج { خُضْرٌ } على لون الحياة؛ لأن حياتهم فيها سرمدية { وَإِسْتَبْرَقٌ } غليظ منه كذلك { وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ } متخذة { مِن فِضَّةٍ } تميماً لتنعمهم وترفههم فيها { وَ } بالجملة: { سَقَاهُمْ رَبُّهُمْ } بعدما تمكنوا في مقعد الصدق عند المليك المقتدر { شَرَاباً } من كأس المحبة، ورحيق التوحيد والتحقيق { طَهُوراً } [الإنسان: 21] خالياً خالصاً عن شوب الثنوية، وشين الكثرة مطلقاً، فسكروا منه، ولم يصحوا أبداً.
ثمَّ قيل لهم من قِبَل الحق: { إِنَّ هَـٰذَا } التي فزتم عليه الآن { كَانَ لَكُمْ جَزَآءً } موعوداً في مقابلة أعمالكم وأخلاقكم، وأحوالكم ومعارفكم، ومواجدكم التي أنتم عليها في النشأة الأولى { وَكَانَ سَعْيُكُم } الذي كنتم عليه في نشأة الأختبار { مَّشْكُوراً } [الإنسان: 22] مجازاً عليه، غير مضيع مع زيادات منَّا عليكم تفضلاً وامتناناً.
ثمَّ لمَّا جمع سبحانه جميع الفضائل والكمالات، وعموم المعارف والمشاهدات والمكاشفات اللدنية في المرتبة الجامعة الختمية المحمدية، المحيطة على عموم المراتب والمناصب، خاطبهم سبحانه خطاب امتنان ورحمة على وجه التعطف والتلطف فقال: { إِنَّا } بمقتضى فضلنا وجودنا { نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ } يا أكمل الرسل تأييداً لك، وتعظيماً لشأنك { ٱلْقُرْآنَ } الحاوي لما في الكتب السالفة، المحتوي لجميع الكمالات اللائقة لعموم الأنبياء والرسل، المجتازين في سبيل التوحيد { تَنزِيلاً } [الإنسان: 23] مفرقاً منجماً على مقتضى الحكمة البالغة الباعثة على إنزالها حسب حاجتك إليها، وانكشافك بما فيها؛ لتتدرج في سلوكك وشهودك.