{ هَلْ أَتَىٰ } أي: قد سبق ومضى { عَلَى ٱلإِنسَانِ } المصوَّر بصورة الرحمن { حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ } أي: شأن محدود من الشئون المحدودة الإلهية، بحيث { لَمْ يَكُن } الإنسان فيه { شَيْئاً } إذ العدم ليس بشيء، فكيف كان { مَّذْكُوراً } [الإنسان: 1]؟!
{ إِنَّا } من مقام عظيم جودنا بمقتضى كمال قدرتنا وإرادتنا، ووفور حكمتنا { خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ } وقدّرنا وجوده بعدما أخرجناه من العدم الصرف نحو فضاء البروز، وصوَّرناه بصور العناصر { مِن نُّطْفَةٍ } مهينة مرذولة { أَمْشَاجٍ } مختلطة مجتمعة من الذكر والأنثى، وبعدما صوَّرناه هيكلاً سوياً، وأودعنا فيه ما أودعنا من الروح وسيمناه إنساناً { نَّبْتَلِيهِ } نختبره ونجرّبه، هل يتفطن إلى موجوده ومظهره، أم لا؟.
وكيف لا نختبره { فَجَعَلْنَاهُ } لحكمة الاختبار، ومصلحة الاعتبار { سَمِيعاً } متمكناً قادراً على استماع آياتنا الدالة على وحدة ذاتنا، وكمالات أسمائنا وصفاتنا { بَصِيراً } [الإنسان: 2] مقتدراً على مشاهدة بدائع صنعنا، وغرائب صنعتنا، وعجائب حكمتنا؛ ليكون معتبراً منها، متوجهاً إلى فاعلها.
ومع إعطاء تلك الكرامات العظيمة إياه { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } يعني: أودعنا فيه العقل الفطري المنشعب من العقل الكلي الذي هو حضرة علمنا، وبواسطته هديناه إلينا سبيلاً بأن أرسلنا الرسل المنبِّهين عليه، الموقظين له من نعاس النسيان، المنهين له إلى ما أودعنا فيه من الوديعة، وأيدناهم بالآيات المبيِّنة المنبِّة، النازلة من لدنا، والبينات الواضحة الموضحة الطريق توحيدنا، وسبيل شهودنا، وبعدما وضح الحق، واتضح السبيل على الوجه الأبلغ الأكمل.
فعليه الاختيار { إِمَّا شَاكِراً } أي: إمَّا أن يكون شاكراً مشتغلاً بشكر النعم، مواظباً على أداء حقوق الكرم، صارفاً عنان عزمه واختياره إلى صوب الهداية والرشاد حتى يكون من أرباب العناية والسداد، المتنعمين في جنة الرضا والتسليم { وَإِمَّا كَفُوراً } [الإنسان: 3] للنعم، كافراً لمنعمها، مقتفياً أثر أصحاب الغفلة والعناد، واللدد والفساد حتى يكون من أصحاب الجحيم.
وبالجملة { إِنَّآ } بمقتضى قهرنا وجلالنا { أَعْتَدْنَا } وهيَّأنا { لِلْكَافِرِينَ } الساترين بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الحق المشرقة، الظاهرة على صفائح ذرائر الكائنات؛ لذلك خرجوا عن ربقة ربقيته، وعروة عبوديته، وأعرضوا عن مقتضى حدوده الموضوعة بين عباده { سَلاَسِلاَ } أي: سلاسل الحرص وطول الأمل، يُقادون ويُسحبون بها نحو نيران الإمكان، وجحيم الطرد والحرمان بأنواع الخيبة والخسران { وَأَغْلاَلاً } أي: أغلال الأماني والشهوات، يُقيَّدون بها { وَسَعِيراً } [الإنسان: 4] مسعراً مملوءاً بنيران الافتقار والاحتياج، والأماني والآمال، يُطرحون فيها طول دهرهم بأنواع الخذلان والهوان أبداً، ويُسجنون خالدين مخلدين.
ثمَّ أردف سبحاه الوعيد بالوعد على مقتضى سنته المستمرة فقال: { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ } الأخيار، البارين المبرورين ذوي الأيدي والأبصار، المستغرقين في بحار المعارف والأسرار { يَشْرَبُونَ } لدى الملك الجبار خمور الشهو والاعتبار { مِن كَأْسٍ } أي: من كؤوس ذرائر العالم المستعار؛ ولذلك { كَانَ مِزَاجُهَا } أي: ما يمزج بها ويخلط { كَافُوراً } [الإنسان: 5] هو برد اليقين.
يعني: { عَيْناً } معيناً هي ينبوع بحر الوجود { يَشْرَبُ بِهَا } ومنها { عِبَادُ ٱللَّهِ } الواصلون إلى عالم اللاهوت، والفانون في فضاء الجبروت، الباقون ببقاء حضرة الرحموت؛ لذلك { يُفَجِّرُونَهَا } ويجرونها { تَفْجِيراً } [الإنسان: 6] وإجراءً حيث شاءوا.