التفاسير

< >
عرض

فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً
٢٤
وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً
٢٥
وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً
٢٦
إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً
٢٧
نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً
٢٨
إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً
٢٩
وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
٣٠
يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَٱلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
٣١
-الإنسان

تفسير الجيلاني

وبعدما سمعت ما سمعت من الكرامة والتعظيم { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } ولا تستعجل في نصرتك وظهورك على عموم أعدائك من جنود أهل التقليد والضلال، سيما كفار مكة، خذلهم الله.
{ وَ } بعدما كوشفت بحقية الحق، ووحدته واستقلاله في الوجود ومطلق الآثار { لاَ تُطِعْ مِنْهُمْ } أي: من أهل التقليد وأصحاب الضلال أحداً سواءً كان { ءَاثِماً } متناهياً في الفسوق والعصيان، بحيث ينتهي إثمه إلى الكفر { أَوْ كَفُوراً } [الإنسان: 24] لنعم الله، مبالغاً في كفران نعمه ونسيان كرمه، بحيث ينتهي كفرانه إلى الكفر، أعاذنا الله وعموم عباده منهما.
{ وَ } بعدما تحققت بمقام الكشف والشهود { ٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [الإنسا: 25] أي: في عموم أوقاتك وحالاتك، وداوم على ذلك.
{ وَمِنَ ٱللَّيْلِ } الموضوع؛ للخلوة مع الله، ودوام المراقبة معه { فَٱسْجُدْ لَهُ } وتوجه نحوه توجهاً خالصاً، مقارناً بكمال الخضوع والخشوع، والتذلل التام { وَسَبِّحْهُ } أي: نزه ذاته عن جميع ما لا يليق بشأنه { لَيْلاً } أي: في خلاله تسبيحاً { طَوِيلاً } [الإنسان: 26] خالياً عن مطلق الشواغل، فارغ البال عن تشتت الآمال، هكذا دأب أصحاب الكمال، وديدنة أصحاب الوجد.
والحال { إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ } أي: أصحاب الضلال المنحرفين عن جادة الاعتدال { يُحِبُّونَ } اللذة { ٱلْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ } أي: يتركون أمامهم وخلفهم بلا مبالاة لهم { يَوْماً ثَقِيلاً } [الإنسان: 27] شديداً، يشتد الأمر فيه عليهم ويصعب، ومع ذلك ينكرون له ويكذبونه.
وكيف يذرونه وينكرونه، مع أنَّا نخبر به، ونأمر بتصديقه؛ إذ { نَّحْنُ } بمقتضى قدرتنا { خَلَقْنَاهُمْ } وقدرنا وجودهم أولاً من أهون الأشياء، وأخسها وأرذلها { وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ } أي: عدلنا أركانهم وجوارحهم، وأحكمنا مفاصلهم وأوصالهم، وبالجملة: سويناهم أشخاصاً قوابل للتكليف؛ ليترتب عليهم الإيمان والتصديق بجميع المعتقدات الدينية { وَ } بعدما لم يؤمنوا، ولم يصدقوا عناداً وكابرةً { إِذَا شِئْنَا } وعلق مشيئتنا على إهلاكهم واستئصالهم أهلكناهم واستأصلناهم، و { بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ } في الخلقة وجميع لوازمها { تَبْدِيلاً } [الإنسان: 28] حسناً، بحيث يكون المبدل خيراً، وأحسن وأكمل من المبدل منه.
وبالجملة: { إِنَّ هَـٰذِهِ } الآيات الدالة على تهذيب الأخلاق والأطوار { تَذْكِرَةٌ } ناشئة من قِبَل الحق { فَمَن شَآءَ } أن يتعظ به، أو يتذكر بما فيها { ٱتَّخَذَ } أولاً { إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } [الإنسان: 29] يعني: شرع في مسالك القرب والوصول إلى الله، فتقرب نحوه بالمعاملات، ثمَّ بالأحوال والمقامات، ثمَّ بالمعارف والحقائق المنتهية إلى المكاشفات والمشاهدات المؤدية إلى الوصول والنهايات، وليس وراء الله مرمى ومنتهى.
{ وَ } لكن { مَا تَشَآءُونَ } أيها المتقربون إلى الله، السائرون نحوه حسب التوفيق والتيسير الإلهي { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } الموفق لهم، الموجد المقدر لعموم أفعالهم وأعمالهم، المنجي لهم عن غياهب الإمكان، وظلمَّات الخيالات والأوهام { إِنَّ ٱللَّهَ } المطلع على استعدادات عباده { كَانَ عَلِيماً } بقابلياتهم اللائقة لفيضان الكشف والشهود { حَكِيماً } [الإنسان: 30] في تربيتهم وتكميلهم.
{ يُدْخِلُ } بمقتضى هدايته ولطفه { مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } التي هي سبعة وحدته { وَ } لكن { ٱلظَّالِمِينَ } الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية، المحرومين عن نظر العناية والتوفيق مطلقاً { أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [الإنسان: 31] لا عذاب أشد منه إيلاماً، وأفزع انتقاماً، وهو حرمانهم عن ساحة عز القبول، نعوذ بك يا ذا القوة المتين.
خاتمة السورة
عليك أيها المريد المترصد لمشيئة الله وتيسيره - وفقك الله على ما أملك، وأعانك على إنجاحه - أن نفرغ همك، وتخلي قلبك عن الالتفات إلى الدينا معرضاً عن آمالها وأمانيها، متوجهاً إلى الآخرة وما فيها، متعرضاً لنفحات الحق، مستنشقاً من روائح روحه ورحمته، راجياً من سعة لطفه وجوده أن ييسر لك، ويوفقك في عموم أوقاتك وحالاتك على ما هو خير لك في أولاك وأخراك، ويدفع عنك شرور بشريتك، ومقتضيات بهيميتك وقواك.
وبالجملة: فاتخذه وكيلاً، وثق إليه، واجعله حسيباً وكفيلاً؛ إذ هو أعلم بما ينبغي لك منك، ويليق بحالك، فلك التفويض والتكلان، والأمر بيد الله الحكيم المستعان.