التفاسير

< >
عرض

يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً
٧
وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً
٨
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً
٩
إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً
١٠
فَوَقَٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ ٱلْيَومِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً
١١
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً
١٢
مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَىٰ ٱلأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً
١٣
وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً
١٤
-الإنسان

تفسير الجيلاني

وصاروا من كمال وصولهم واتصالهم { يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ } ويوفرون على المنذور { وَ } كيف لا يوفون أولئك الموفقون، مع أنهم { يَخَافُونَ يَوْماً } وأيّ يوم، يوماً { كَانَ شَرُّهُ } شدائده وأهواله { مُسْتَطِيراً } [الإنسان: 7] طائراً منتشراً بين عموم العباد؟!
{ وَ } من كمال استغراقهم بمطالعة وجهه الكريم { يُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ } أي: الرزق الصوري والمعنوي، المسوق لهم من عنده سبحانه تقويةً وتقويماً، ترحيباً وتكريماً { عَلَىٰ حُبِّهِ } طلباً لمرضاته { مِسْكِيناً } أسكنه الفقر، وأزعجه إلى المعاونة والسؤال { وَيَتِيماً } أدركه الذل، وأحوجه إلى الافتقار { وَأَسِيراً } [الإنسان: 8] أذلَّه الصغار والهوان، وأفقره إلى الرعاية والترحم.
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الحسن والحسين - سلام الله وصلواته على جدهما وولديهما وعليهما - مرضا مرضاً هائلاً فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك، فنذر علي وفاطمة - على النبي وعليهما وابنيهما الصلاة والسلام - وفضة جارية لفاطمة صوم ثلاثة أيام إن برئا، ثمَّ لمَّا برئا صاموا وما معهم شيء، واستقرض عليّ من شمعون الخيبري ثلاثة آصع من الشعير، فطحنت فاطمة صاعاً، وخبزت خمسة أقراص على عدد رءوسهم، فوضعوا بين أيديهم ليفطروا، فجاء على الباب مسكين، فأعطوا له وآثروه على أنفسهم، وباتوا ولم يذوقوا إلاَّ المَّاء، وأصبحوا صياماً.
فلمَّا فعلوا كذلك، فألمّ عليهم يتيم فآثروه كذلك، فأصبحوا صياماً، ففعلوا في اليوم الثالث مثل ذلك، فجاء أسير، فأعطوه فباتوا بلا طعام، فنزل جبريل بهذه الآية فقال: هنأك الله في أهل بيتك يا نبي الله.
ثمَّ لمَّا أضمروا في نفوسهم ومناجاتهم حين صدور هذا الإحسان عنهم طلب مرضاة الله، وتثبيتاً لهم على دينه وطاعته، وتشويقاً منهم إلى لقائه، نزل في حقهم على وفق ما نووا: { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ } أي: ما نطعمكم أيها المحتاجون إلاَّ { لِوَجْهِ ٱللَّهِ } الكريم، وطلباً لمرضاته؛ إذ { لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً } ليصير عوضاً؛ لإطعامنا لوجه الله الكريم { وَلاَ شُكُوراً } [الإنسان: 9] ما لنا من الشكر والجزاء أمر.
وكيف يتأتى منَّا طلب الشكر والجزاء؛ إذ قدرتنا على إطعامكم إنما هي بإقدار الله إيانا، وإعطاؤنا إنما هي من عطاياه؟! وبالجملة: { إِنَّا نَخَافُ } بطلب الأجر والجزاء { مِن } غضب { رَّبِّنَا } بنا { يَوْماً } وأيّ يوم، يوماً { عَبُوساً } تعبس فيه مطلق الوجوه من شدة هوله، بل صارت { قَمْطَرِيراً } [الإنسان: 10] في غاية الشدة والعبوسية، سيما على أهل الرياء والسمعة، الطامعين بصدقاتهم الذكر الجميل، والثناء الجزيل، مع أنهم إنما يعطون من مال الله لعيال الله.
وبعدما أخلصوا لله، وخافوا من عذابه { فَوَقَٰهُمُ ٱللَّهُ } الحكيم الحفيظ { شَرَّ ذَلِكَ ٱلْيَومِ } أي: فرفع عنهم شره، وأبدله لهم خيراً { وَلَقَّاهُمْ } أي: لقى لهم يومهم { نَضْرَةً } طراوة وصفاء في وجوههم { وَسُرُوراً } [الإنسان: 11] وبهجة في قلوبهم.
{ وَ } بعدما فعلوا ما فعلوا خالصاً لوجه الله { جَزَاهُمْ } سبحانه { بِمَا صَبَرُواْ } وحبسوا نفوسهم عن مشتهيات المنهيات والمحرمات، وعلى أداء الواجبات، وإيثار الأموال والأرزاق المسوق نحوهم؛ لطلب المرضاة { جَنَّةً } مصورة من صالحات أعمالهم وحالاتهم ومقاماتهم، يتلذذون فيها باللذات الروحانية أبد الآباد { وَ } يلبسون فيها { حَرِيراً } [الإنسان: 12] متخذاً من حلل الأسماء والصفات التي لا يتصور فيها الحول والخشونة أصلاً.
{ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَىٰ ٱلأَرَائِكِ } يعني: مستظهرين فيها بالألطاف الإلهية، مستظلين بكنف حفظه وجواره، بحيث { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً } أي: حرارتها المؤذية لهم { وَلاَ زَمْهَرِيراً } [الإنسان: 13] أي: البرودة المضرة، بل تعتدل فيها الهواء والأهواء؛ لتعديلهم الأخلاق والأعمال والأحوال.
{ وَ } ليس ظلال الجنة بعيدة عنهم، بل كانت { دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا } الموعودة لهم من قِبَل الحق { وَ } لهم فيها ثمَّار متجددة، متلونة من أنواع المعارف والحقائق اللدنية المترتبة على أشجار الأسماء والصفات الإلهية التي اتصفوا بها، وتخلقوا بمقتضاها، ولا تكون تلك الأشجار وأثمَّارها، وأغصانها الكثيرة بعيدة آبية عنهم بعدما اتصفوا بها، بل { ذُلِّلَتْ } وسخرت { قُطُوفُهَا } ثمَّارها لهم { تَذْلِيلاً } [الإنسان: 14] بحيث منتى أرادوا تلذذوا بها بلا تردد؛ إذ كمالاتهم كلها حينئذٍ بالفعل بلا انتظار لم أياها، وترقب لها.