التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوۤاْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
٢٧
وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
٢٨
يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٢٩
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ
٣٠
-الأنفال

تفسير الجيلاني

ثمَّ قال سبحانه على وجه العظة والتذكير تعليماً للمؤمنين، منادياً لهم؛ ليقبلوا بما أمروا ونهوا: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } مقتضى إيمانكم: أن { لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ } في امتثال أوامره واجتناب نواهيه { وَٱلرَّسُولَ } في سنته وأخلاقه وآدابه التي وضعها فيما بينكم؛ لإصلاح حالكم { وَ } بالجملة: { تَخُونُوۤاْ أَمَانَاتِكُمْ } التي ائتمنتم فيها اعتماداً وثقةً { وَ } الحال أنه { أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [الأنفال: 27] قبح الخيانة من أنفسكم بلا احتياج إلى إنذار منذر، وإخبار مخبر، والخيانة في الأمانات إنما تنشأ من جلب المنفعة والحرص المفرط، وتكثير الميل إلى المال الصالح للعيال.
{ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } اختيار وابتلاء لكم من ربكم يجربكم هل تضطربون في أمر المال والعيال، وتوقعون لأجلها في المهالك وإباحة المحرمات، وارتكاب الخيانات المسقطة للمروءات مطلقاً؟ أم تفوضون الأمور كلها إلى الله وترضون بما قضى عليكم، وقدر لكم في سابق علمه ولوح قضائه؟ { وَ } اعلموا { أَنَّ ٱللَّهَ } المطلع لجميع حالاتكم { عِندَهُ } وفي كنف حفظه وجواره { أَجْرٌ عَظِيمٌ } [الأنفال: 28] للمفوضين الذين رضوا بقسمة الله في جميع حالاتهم، ووفوا بما ائتمنوا من الأمانات مجتنبين عن الخيانة فيها.
{ يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ } وتحذروا عن محارمة ومحضوراته مطلقاً، وتؤدوا الأمانات التي ائتمنتم بها من الأموال والشهادات بلا خيانة فيها، وتفوضوا أموركم كلها إليه مجتنبين { يَجْعَل لَّكُمْ } وينزل على قلوبكم تفضلاً وامتناناً { فُرْقَاناً } ينور به قلوبكم إلى حيث تميِّزون الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والإلهام الإلهي من إغواء الشيطان وتقريره { وَيُكَفِّرْ } به ويمحو به { عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } أي: جرائمكم اللاتي مضت عليكم بالمرة { وَ } بالجملة: { يَغْفِرْ لَكُمْ } ويستر عنكم ذنوبكم مطلقاً؛ تفضلاً وامتناناً { وَ } لا تتعجبوا من أفضاله هذا، ولا تستبعدوا منه سبحانه أمثاله، إن { ٱللَّهُ } المراقب لأحوال عباده { ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } [الأنفال: 29] واللطف الجسيم على من توكل عليه، والتجأ نحوه في جميع حالات على وجه الخضوع والخشوع.
{ وَ } اذكر يا أكمل الرسل إنجاءنا وخلاصنا إياك وقت { إِذْ يَمْكُرُ } ويخدع { بِكَ } إهلاكك ومقتك { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني: قريشاً شاوروا لأمرك في دار الندوة { لِيُثْبِتُوكَ } ويحبسوك في دار ليس فيها منفذ ولا كوة يلقون منها طعامكم أحياناً { أَوْ يَقْتُلُوكَ } مزدحمين؛ بحيث لم ينسب قتلك إلى معين منهم { أَوْ يُخْرِجُوكَ } من مكة محمولاً على عجل؛ ليقتلك القطاع { وَ } بالجملة: { يَمْكُرُونَ } أولئك الكفرة العصاة الطغاة لمقتك { وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ } الرقيب عليك؛ لإنجائك وخلاصك من أيديهم قغلب مكره سبحانه على مكره، وأخرجك من بينهم سالماً { وَٱللَّهُ } المطلع لجميع محايلهم { خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } [الأنفال: 30] أي: أشدهم وأقواهم تأثيراً وقوةً.
وذلك أنهم حين سمعوا إيمان الأنصار تشاوروا على أظهرهم في أمره صلى الله عليه وسلم، وارتفاع شأنه، وسطوع برهانه فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ، وقال: أنا من نجد، سمعت اجتماعكم فأحضركم؛ لأعلم كيف تدبرون في أمر هذا الشخص الذي لو بقي زماناً على هذا يُخاف عليكم من شرءه؟.
فقال أبو البحتري: رأيي أن تحبسوه في بيت، وتسدوا منافذه غير كوةٍ يلقون إليه طعامه وشرابه حتى يموت، فقال الشيخ النجدي: بئس هذا الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه يخلصونه من أيديكم، فقال هشام بن عمرو: رأيي أن يحملوه على جمل فيخرجوه من أرضكم، ولا يلحقكم ضرر بني هاشم، فقال الشيخ: يفسد قوماً آخر ويقاتلكم بهم أما رأيتم طلاقة لسانه وحلاوة كلامه، ووجاهة منظره؟.
فقال أبو جهل: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً وتعطوه سيفاً، فيضربون دفعة واحدة فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حروب قريش كلهم، فإن طلبوا العقل عقلناه، فقال الشي: صدق هذا التفى، واتفقوا على رأيه.
فأتى جبريل النبي - عليهما السلام - وأخبره الخبر وأمره بالهجرة فبيَّت صلى الله عليه وسلم علياً - كرم الله وجهه - على مضجعه متسجياً ببرده، وخرج صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه ومضيا إلى الغار وبات المشركون يحرسون علياً - كرم الله وجهه - يحسبون النبي صلى الله عليه وسلم، فلمَّا أصبحوا ساروا ليقتلوه قرأوا عليّاً، فقالوا: أين صاحبكم؟ فقال: ما أدري فاتبعوا أثره، فلمَّا بلغوا الغار رأوا نسج العنكبوت على بابه، فقالوا: لو دخله ليم يبق لنسج العنكبوت أثر، فمكث فيه صلى الله عليه وسلم ثلاثة ثمَّ خرج نحو المدينة.