التفاسير

< >
عرض

عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ
١
أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ
٢
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ
٣
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ
٤
أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ
٥
فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ
٦
وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ
٧
وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ
٨
وَهُوَ يَخْشَىٰ
٩
فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ
١٠
كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ
١١
فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ
١٢
فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ
١٣
مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ
١٤
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ
١٥
كِرَامٍ بَرَرَةٍ
١٦
قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ
١٧
مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ
١٨
مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ
١٩
ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ
٢٠
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ
٢١
ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ
٢٢
-عبس

تفسير الجيلاني

{ عَبَسَ } وجهه من الكراهة عن المسترشد { وَتَوَلَّىٰ } [عبس: 1] أي: أعرض عنه، وحول صفحة وجهه عنه كارهاً إياه.
وقت { أَن جَآءَهُ } المسترشد { ٱلأَعْمَىٰ } [عبس: 2] أخرج الكلام سبحانه مع حبيبه صلى الله عليه وسلم على طريق الغيبة؛ إظهاراً لكمال الغيرة، والحمية الإلهية عن هذه الغفلة الغير مرضية.
ثمَّ التفت إلى الخطاب؛ لكمال التأديب والتشنيع فقال على سبيل التهويل: { وَمَا يُدْرِيكَ } أي: وأيّ شيء يكشف لك حاله وقلبه { لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ } [عبس: 3] ويتطهر عن الآثام، ويهتدي إلى طريق الإسلام بهدايتك وإرشادك، بخلاف أولئك الجهلة الغفلة الذين تحننت نحوهم، وتحببت دعوتهم، فإنهم لا يهتدون ولا يتطهرون.
{ أَوْ يَذَّكَّرُ } أي: يتعظ ويتذكر هذا المريد الفقير من كلامك { فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } [عبس: 4] والعظة، و توجَّه هو بسببها إلى المولى.
{ أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ } [عبس: 5] عن الله، وأعرض عن تذكيرك ودعوتك مستكبراً بماله وثروته، وسيادته وكمال نخوته.
{ فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ } [عبس: 6] تميل وتتعرض بالإقبال إليه، وتتحنن بكمال المحبة نحوه.
{ وَمَا عَلَيْكَ } أي: أيّ شيء عرض عليك، ولحِق بك عن المكاره الإمكانية { أَلاَّ يَزَّكَّىٰ } [عبس: 7] ولا يتظهر عن خباثة الآثام، وأدناس العصيان حتى يبعثك عن الإعراض عن أهل الحق، وعدم الالتفات نحوهم، مع أن ما عليك إلاَّ البلاغ والتبليغ.
{ وَأَمَّا مَن جَآءَكَ } من أرباب الطلب والإخلاص { يَسْعَىٰ } [عبس: 8] ويسرع بطلب الخير والهداية.
{ وَ } الحال أنه { هُوَ يَخْشَىٰ } [عبس: 9] عن غضب الله ويرجو ثوابه.
{ فَأَنتَ } مع كونك مبعوثاً عن الهداية والإرشاد إلى أصحاب الإرادة والقبول { عَنْهُ تَلَهَّىٰ } [عبس: 10] تتشاغل وتنصرف، كأنك تحقره ولا تبال بشأنه وإيمانه؛ لرثاثة حاله وفقره.
ثمَّ بالغ سبحانه في تأديب حبيبه صلى الله عليه وسلم وأكده، حيث قال: { كَلاَّ } أي: ارتدع عن فعلتك هذه، ولا تمل إلى أصحاب الزيغ والضلال معرضاً عن أرباب الهداية والكمال؛ إذ ما عليك التخيير والاختيار، إن عليك إلاَّ التبليغ والإنذار { إِنَّهَا } أي: دعوتك وتذكيراتك بالآيات { تَذْكِرَةٌ } [عبس: 11] نازلة من ربك، مأمورة لك تبليغها إلى الناس.
{ فَمَن شَآءَ } سبحانه اتعاظه من عباده { ذَكَرَهُ } [عبس: 12] أي: بالقرآن، ووعظه به سواء كان فقيراً أو غنياً.
وكيف لا يوعظ به، مع أنه منزّل من عند الله { فَي صُحُفٍ } نازلة على رسل الله { مُّكَرَّمَةٍ } [عبس: 13] عنده سبحانه؟!
{ مَّرْفُوعَةٍ } مقبولة لديه درجةً ومكاناً، ملقاة من عند الله إلى رسول الله { مُّطَهَّرَةٍ } [عبس: 14].
{ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } [عبس: 15] أي: ملائكة يتوسلون بين الله ورسله.
{ كِرَامٍ } أعزة من عند الله، ذو كرامة على أهل الإيمان { بَرَرَةٍ } [عبس: 16] أتقياء مبرورين في أنفسهم، بارين على عباد الله مع هذه الكرامة العظيمة الإلهية، والإشفاق البليغ من لدنه سبحانه، والرحمة العامة من عنده.
{ قُتِلَ ٱلإِنسَانُ } أي: لُعن وطُرد عن ساحة القبول { مَآ أَكْفَرَهُ } [عبس: 17] أي: أيّ شيء حداه وبعثه إلى الإعراض عن الله المنعم المفضل، والانصراف عن طاعته وعبادته، مع أنه عالم بكمال كرامته سبحانه عليه، معترف ببدائع صنعه وصنعته معه، متذكر في نفسه، مستحضر بشئونه وتطوراته السالفة؟!
{ مِنْ أَيِّ شَيءٍ } مسترذل مستنزل { خَلَقَهُ } [عبس: 18] وأوجده حسب قدرته.
{ مِن نُّطْفَةٍ } مهينة خبيثة { خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } [عبس: 19] أي: هيَّأ آلاته وأعضاءه منها، فعدَّله وسوَّى هيكله، ومن أنَّى تكبر وافتخر وبطر؟!
{ ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ } الموحد الموصل إلى ربه وموجده الذي هو مبدؤه ومعاده { يَسَّرَهُ } [عبس: 20] وسهَّل عليه بأن أفاض عليه، وأودع فيه العقل الفطري المنشعب من العقل الكلي الإلهي؛ ليعرف به مبدأه ومعاده.
{ ثُمَّ أَمَاتَهُ } عن نشأة الاختيار والابتلاء تخليصاً وتقريباً له إلى ربه { فَأَقْبَرَهُ } [عبس: 21] في البرزخ.
{ ثُمَّ إِذَا شَآءَ } وتعلق مشيئته للإحياء { أَنشَرَهُ } [عبس: 22] من القبر، وحشره إلى المحشر فحاسبه فجازاه على مقتضى حسابه، خيراً كان أو شراً فضلاً منه وعدلاً.