التفاسير

< >
عرض

فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ
١٥
ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ
١٦
وَٱللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ
١٧
وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ
١٨
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ
١٩
ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ
٢٠
مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ
٢١
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ
٢٢
وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ
٢٣
وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ
٢٤
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ
٢٥
فَأيْنَ تَذْهَبُونَ
٢٦
إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ
٢٧
لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ
٢٨
وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ
٢٩
-التكوير

تفسير الجيلاني

وبعدما عدَّ سبحانه أحوال القيامة وأهوالها أشار إلى ما يدل على التأكيد والمبالغة في وقوعها فقال: { فَلاَ أُقْسِمُ } أي: لا حاجة إلى القسم؛ لإثبات هذه المذكورات؛ إذ هي في غاية السهولة والظهور عند القدرة الغالبة الإلهية، بل أقسم { بِٱلْخُنَّسِ } [التكوير: 15] أي: بالنفوس الزكية عن لوث الناسوت، الراجعة إلى عالم اللاهوت، وحضرة الرحموت قبل قيام الساعة؛ لصفاء مشربها، ونظافة طينتها.
{ ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ } [التكوير: 16] أي: أقسم أيضاً بنفوس الشطار الطائرين إلى الله، المختفين تحت قباب عزه، وشمس ذاته، بحيث لا يعرفهم أحد سواه سبحانه.
{ وَ } حق { ٱللَّيْلِ } أي: عالم العماء الإلهي { إِذَا عَسْعَسَ } [التكوير: 17] أقبل ظلامه واشتد، بحيث اختفى فيه عموم ما ظهر وبطن.
{ وَ } بحق { ٱلصُّبْحِ } أي: عالم الجلاء المنعكس من ذلك العماء اللاهوتي { إِذَا تَنَفَّسَ } [التكوير: 18] أي: أضاء وأشرق على أهل الفناء الفانين عن الفناء، المتعطشين يزلان البقاء.
{ إِنَّهُ } يعني: أقسم سبحانه بهذه المقسمات العظيمة أن القرآن { لَقَوْلُ رَسُولٍ } مرسل من قِبَل الله { كَرِيمٍ } [التكوير: 19] متصف بالكرامة والأمانة؛ يعني: العقل الكل المسمّى بجبريل.
{ ذِي قُوَّةٍ } غالبة على حمل الوحي الإلهي { عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ } العظيم المحيط بعروش عموم المظاهر { مَكِينٍ } [التكوير: 20] ذي مرتبة عظيمة.
{ مُّطَاعٍ ثَمَّ } أي: في عالم الأسماء والصفات؛ إذ عموم المدارك والقوى تابعة مطيعة للعقل الكلي الذي هو حضرة العلم الإلهي، ولوح قضائه { أَمِينٍ } [التكوير: 21] حفيظ على الوحي الإلهي بالتوفيق الإلهي، بحيث لا يشذ عنه شيء من أوامره ونواهيه.
{ وَ } أيضاً أقسم سبحانه بتلك المقسمات على أنه { مَا صَاحِبُكُمْ } الذي نزل عليه هذا إلاَّ أمين بهذا الكتاب المبين؛ يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم { بِمَجْنُونٍ } [التكوير: 22] ومختل القوى والآلات، كما زعمتم؛ إذ زعمكم هذا بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم إنما هو من غاية انحطاطكم عن رتبته، وجهلكم بمكانته، وإلاَّ فهو صلى الله عليه وسلم في أعلى طبقات الإدراك.
{ وَ } كيف لا يكون صلى الله عليه وسلم في أعلى طبقات الإدراك والمعرفة { لَقَدْ رَآهُ } يعني: علم وعرف صلى الله عليه وسلم جبريل الذي هو العقل الكل { بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } [التكوير: 23] الذي هو حضرة العلم الإلهي، ولوح قضائه؟!
{ وَمَا هُوَ } صلى الله عليه وسلم { عَلَى ٱلْغَيْبِ } الذي أطلعه الحق عليه من المعارف والحقائق، والرموز والإشارات المتعلقة بتصفية الظاهر والباطن، وتخلية السر والضمير عن الالتفات إلى الغير مطلقاً { بِضَنِينٍ } [التكوير: 24] بخيل شحيح، سيما بعدما أمره سبحانه بنشرها وتبليغها، وما هو على المغيبات التي نطق بها بمقتضى الوحي الإلهي، وإلهامه بظنين منهم، يتهمه أحد، وينسبه إلى الافتراء المستبعد عن علو شأنه، ورفعة قدره ومكانه صلى الله عليه وسلم بمراحل.
{ وَ } كذا { مَا هُوَ } يعني: القرآن الذي هو تكلم به، ونزل عيه { بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } [التكوير: 25] أي: ما هو شعر وكهانة ناشئة من شياطين الوهم والخيال، كما زعمه أهل الزيغ والضلال المترددين في أودية الجهل والغفلة، وهاوية العناد و الجدال.
وبعدما لاح عظم شأن القرآن، ورفعة قدره، وعلو مكانته { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } [التكوير: 26] تعدلون وتنصرفون عن جادة العدالة الإلهية أيها الضالون المضلون؟.
{ إِنْ هُوَ } أي: ما هذا القرآن العظيم { إِلاَّ ذِكْرٌ } عظة كبيرة { لِّلْعَالَمِينَ } [التكوير: 27] أي: لعموم من جُبل على فطرة التذكر، وقابلية الإرشاد والتكميل.
{ لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } [التكوير: 28] أي: عظة وتذكير لمن قصد الاستقامة على صراط العدالة الإلهية، تذكر به واتعظ؛ لإرشاده وهدايته.
{ وَ } غاية ما في الباب: إنه { مَا تَشَآءُونَ } وتختارون طريق الهداية والرشاد لأنفسكم { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } هدايتكم، ويوفقكم على الاستقامة والرشاد عنايةً منه وفضلاً؛ إذ عموم أفعالكم إنما هي مستندة إلى الله، صادرة منه سبحانه أصالة؛ إذ هو سبحانه { رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } [التكوير: 29] لا مربي في الوجود سواه، ولا مدِّبر في الشهود إلاَّ هو، ومقتضى تربيته وتكميله: إرشاد عباده وتوفيقهم إلى ماهو أصلح لهم، وأليق بحالهم.
وفقنا بفضلك وجودك بما تحب وترضى أنت عنَّا يا مولانا.
خاتمة السورة
عليك أيها الطالب لتوفيق الحق، وتربيته على الوجه الأصلح الأليق أن تفوِّض عموم أمورك، وأعمالك وأحوالك كلها إلى مشيئة الله، وتسلمها إليه سبحانه طوعاً ورغبةً بلا توهم تخيير واختيار منك، وإرادة جزئية أو كلية؛ إذ ليس لك من الأمر شيء، بل الأمور الجارية كلها لله، وبمقتضى تقديره وقضائه، وليس لك إلاَّ التسليم والرضا بجميع ما جرى عليك من القضاء.
وإياك إياك الاغترار بحياة الدنيا، الفرار الفرار، وما فيها من المزخرفات الخداعة المكارة، فإنها دار العتو والاعتبار، لا منزل الإقامة والقرار، واللائق بحال الفطن الذكي ألاَّ يتمكن فيها إلاَّ على وجه الضرورة والاضطرار، ولا على سبيل الرضا والاختيار.
جعلنا الله ممن تثبه ببطلان الدنيا الدنيَّة وعموم ما فيها، وعدم ثباتها وقرارها.