التفاسير

< >
عرض

إِنَّهُ كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً
١٣
إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ
١٤
بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً
١٥
فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلشَّفَقِ
١٦
وَٱللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ
١٧
وَٱلْقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ
١٨
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ
١٩
فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
٢٠
وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ ٱلْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ
٢١
بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ
٢٢
وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ
٢٣
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٢٤
إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
٢٥
-الانشقاق

تفسير الجيلاني

{ إِنَّهُ كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ } في دار الدنيا { مَسْرُوراً } [الانشقاق: 13] بطراً فرحاناً، فخوراً بالمَّال والجاه، والثروة والسيادة، متفوقاً على الأقران، يمشي على الأرض خيلاء.
وإنما حمله عليه { إِنَّهُ ظَنَّ } بل تيقن جهلاً وعناداً { أَن لَّن يَحُورَ } [الانشقاق: 14] أي: لن ينقلب ويرجع إلى الله، ولن يقوم بين يديه سبحانه للحساب والجزاء؛ لذلك أجترأ من المعاصي.
ثمَّ قال سبحانه: { بَلَىٰ } ردعاً عما قبله، وتصديقاً لما بعده على سبيل التعريض { إِنَّ رَبَّهُ } الذي ربَّاه على فطرة المعرفة، وجبله على نشأة التوحيد { كَانَ بِهِ بَصِيراً } [الانشقاق: 15] عالمّاً بتفاصيل أعماله الصادرة عنه على وجه الخبرة والبصارة، بحيث لا يشذ عن حيطة علمه شيء من أعماله وأحواله، فلا يهمله، بل يعيده ويجازيه.
ثمَّ قال سبحانه: { فَلاَ أُقْسِمُ } لإتيان يوم القيامة، وإثبات ما فيها من الثواب والعقاب، والجزاء والحساب وغير ذلك؛ إذ هي أمور ظاهرة مكشوفة عند ذوي الكشف والشهود من أرباب المحبة والولاء، الواصلين إلى بحر الوحدة، وينبوع الحقيقة، بل أقسم { بِٱلشَّفَقِ } [الانشقاق: 16] المنبئ عن الشفقة والترحم الإلهي، وهو البياض المعترض من أفق عالم اللاهوت عند انقضاء نشأة الناسوت، حين حكم سبحانه بانطواء سجلات التعينات والهويات.
{ وَٱللَّيْلِ } أي: أُقسم بالليل؛ أي: مرتبة العماء الإلهي { وَمَا وَسَقَ } [الانشقاق: 17] أي: ضم وجمع من الأنوار المنعكسة إليها هياكل الأشباح.
{ وَٱلْقَمَرِ } أي: أُقسم أيضاً بالقمر؛ أي: الوجود الكلي الإضافي، المنبسط على مرآة ا لعدم المنعكس من شمس الذات الأحدية المتعشعشة، المتجلية عن مطلع الفضاء اللاهوتية { إِذَا ٱتَّسَقَ } [الانشقاق: 18] تم وعمم، وشمل الكل، وصار بدراً كاملاً بلا نقصان.
{ لَتَرْكَبُنَّ } أيها المكلفون، ولتطرحن في نار القطيعة والحرمان { طَبَقاً } مجاوزاً { عَن طَبقٍ } [الانشقاق: 19] بعيداً عنه، متجاوزاً في شدة الأهوال والأقراع، وبعد الغور والطور في الحرقة، وأنواع العذاب والنكال.
وبالجملة: بحق هذه المقسمات العظام لدخلتم في طبقات النيران لو كفرتم بالله وعصيتم أمره، وخرجتم عن مقتضى حدوده وأحكامه.
وبعدما سمعوا ما سمعوا من الصادق الصدوق { فَمَا لَهُمْ } أي: أيّ شيء عرض عليهم ولحقهم { لاَ يُؤْمِنُونَ } [الانشقاق: 20] ولا يتصفون بالانقياد والتسليم، سيما بعد ورود الزواجر والروادع من قِبَل الحق على ألسنة الرسل والكتب.
{ وَ } من كمال غفلتهم عن الله، وضلالهم عن سنن الهداية والرشاد { إِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ ٱلْقُرْآنُ } المبين لطريق الحق، وسبيل الإيمان والعرفان { لاَ يَسْجُدُونَ } [الانشقاق: 21] لا يخضعون والايتذللون، مع أنه إنما نزل؛ لهدايتهم وإرشادهم عناداً ومكابرةً، فكيف التذلل والخضوع؟!
{ بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ } [الانشقاق: 22] به وبمنزله، وبمن أُنزل إليه جميعاً.
{ وَ } بالجملة: { ٱللَّهُ } المطلع بما في ضمائر عباده { أَعْلَمُ } بعلمه الحضوري { بِمَا يُوعُونَ } [الانشقاق: 23] أي: بعموم ما يضمرونه في نفوسهم من الكفر والكفران، وأنواع البغي والعدوان، والغفلة والطغيان، يجازيهم على مقتضى علمه بهم، وخبرته بما في نفوسهم.
وبالجملة: { فَبَشِّرْهُمْ } يا أكمل الرسل بشارة على سبيل التهكم والاستهزاء { بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الانشقاق: 24] نازل عليهم حين أُخذوا بعصيانهم وآثامهمه.
{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ } منهم، وخرجوا عن ورطة الطغيان مستمسكين بعروة الإيمان، متشبثين بحبل القرآن { لَهُمْ أَجْرٌ } عظيم { غَيْرُ مَمْنُونٍ } [الانشقاق: 25] أي: غير مقطوع ومنقوص، إن أخلصوا في إيمانهم وإذعانهم.
اصنع بنا ما أنت به أهل يا مولانا.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المحمدي، المجبول على فطرة الإيمان والعرفان - مكنك الله فيما يسّر لك، وثبتك عليه - أن تتمسك بحبل التوفيق الإلهي، وتتشبث بأذيال همم أرباب التحقيق من الأنبياء والرسل الهادين المهديين، والأولياء الألباء المهتدين لهدايتهم؛ إذ هم خلاصة الوجود، وزبدة أرباب الكشف والشهود.
فلك أن تتخلق بأخلاقهم، وتقتفي بآثارهم المأثورة عنهم، وتسترشد من المرشد الرشيد الذي هو القرآن المجيد الموصل لأرباب التوفيق إلى زلال التوحيد، والمسقط لأنواع التقاليد الراسخة في قلوب أصحاب الغفلة والتخمين.
فلك أن تتأمل ظاهره وباطنه، وحده ومطلعه؛ حتى تتوسل بها إلى ما فوقها من الرموز التي وهبها سبحانه، وجاد بها لبعض النفوس القدسية الفانية في قدس الذات الباقية ببقائها.
جعلنا الله من خدامهم وتراب أقدامهم.