التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ
١٠
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْكَبِيرُ
١١
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ
١٢
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ
١٣
وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلْوَدُودُ
١٤
ذُو ٱلْعَرْشِ ٱلْمَجِيدُ
١٥
فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ
١٦
هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْجُنُودِ
١٧
فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ
١٨
بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ
١٩
وَٱللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ
٢٠
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ
٢١
فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ
٢٢
-البروج

تفسير الجيلاني

وبالجملة: { إِنَّ } المسرفين المفسدين { ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ } وأحرقوا { ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } ظلمّاً وعدواناً، كراهة هدايتهم وإيمانهم { ثُمَّ } بعدما فعلوا من الإفراط والإسراف { لَمْ يَتُوبُواْ } إلى الله، ولم يرجعوا نحموه سبحانه عن ظلمهم، ولم يستغفروا نادمين { فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ } الطرد والحرمان عن حضور الحنَّان المنَّان { وَلَهُمْ } ولحق بهم؛ بسبب كفرهم بالله، وإنكارهم توحيده { عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ } [البروج: 10] بدل ما فعلوا بالمؤمنين من حرقهم في الأخاديد.
ثمَّ عقب سبحانه وعيدهم بوعد المؤمنين فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بوحدة الحق { وَ } أكدوا إيمانهم بأن { عَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } المقرونة بالإخلاص في النيات { لَهُمْ } عند ربهم جزاء إيمانهم وأعمالهم تفضلاً عليهم { جَنَّاتٌ } منتزهات العلم والعين والحق { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } جداول المعارف والحقائق المنتشئة من بحر الحقيقة، وبالجملة: { ذَلِكَ } القوم العظيم الشأن، البعيد رفعةً ومكانةً عن أفهام الأنام هو { ٱلْفَوْزُ ٱلْكَبِيرُ } [البروج: 11] والفضل العظيم الذي لا فوز أعظم منه وأرفقع.
ثمَّ أشار سبحانه إلى تهديد أصحاب الضلال، المنحرفين عن جادة الاعتدال، مخاطباً لحبيبه صلى الله عليه وسلم فقال: { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ } يا أكمل الرسل، وأخذه بالعنف لعصاة عباده المائلين عن سبيل سداده، وجادة رشاده { لَشَدِيدٌ } [البروج: 12] بحيث لا يقال على شدة بطشه، وتضاعف عذابه وانتقامه.
وكيف يقاس على بطشه، ويقاوم مع أخذه { إِنَّهُ } سبحانه { هُوَ } القادر الغالب الذي { يُبْدِىءُ } ويظهر عموم المظاهر والموجودات من كتم العدم بالقدرة الغالبة الكاملة، ثمَّ يخفي ويعدم كلها أيضاً بكمال قدرته { وَيُعِيدُ } [البروج: 13] ويخرج عن فضاء الظهور مرة بعد أخرى بمقتضى قدرته واختياره، فكيف يقاوم ويقاس مع قدرته سبحانه هذه؟!
وكيف يطيق أحد أن يقوم بمعارضته - تعالى شأنه أن يُعارض حكمه، ويُنازع سلطانه - يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا يُسأل عن فعله، إنه حكيم حميد؟!
{ وَهُوَ } سبحانه بمقتضى سعة جوده ورحمته { ٱلْغَفُورُ } الستار المحاء لذنوب من تاب ورجع نحوه مخلصاً نادماً، وإن كبرت وكثرت، فإن رحمته أوسع منه وأشمل { ٱلْوَدُودُ } [البروج: 14] المحب لإخلاص المذنبين، وتوبة المستغفرين، وضراعة الخائفين المخبتين، المستحيين من الله، النادمين على ما صدر عنهم وقت الغفلة والغرور.
وكيف لا يود ولا يغفر سبحانه، مع أنه { ذُو ٱلْعَرْشِ } المستوي على عروش ما ظهر وبطن بالاستيلاء التام، والاستقلال الكامل { ٱلْمَجِيدُ } [البروج: 15] العظيم في ذاته وصفاته، وأسمائه وأفعاله؛ إذ لا وجود لسواه، ولا كون لغيره.
فظهر أنه { فَعَّالٌ } بالاستقلال الاختيار { لِّمَا يُرِيدُ } [البروج: 16] وجميع الأفعال الجارية في ملكه وملكوته صادرة عنه باختياره، وبلا شركة فيها ومظاهرة؛ إذ لا يجري في ملكه إلاَّ ما يشاء بمقتضى علمه الشامل، وحكمته الكاملة، سواء كان إنعاماً أو انتقاماً.
ثمَّ أشار سبحانه إلى تسلية حبيبه صلى الله عليه وسلم، وحثه على الصبر بأذيات قومه وتكذيبهم إياه مكابرةً فقال: { هَلُ أَتَاكَ } أي: قد أتاك ووصل إليك، وثبت ذلك عندك يا أكمل الرسل بالتواتر { حَدِيثُ ٱلْجُنُودِ } [البروج: 17] أي: أخبار الأمم السالفة، وقصة تكذيبهم للرسل والكتب، وانتامنا عنهم بعدما بلغ أذيات الرسل غايتها.
يعني: { فِرْعَوْنَ } الطاغي الباغي وملئه، كيف كذبوا أخاك موسى الكليم عليه السلام، وكيف قصدوا لمقته وهلاكه مراراً، وكيف انتقمنا عنهم واستأصلناهم { وَثَمُودَ } [البروج: 18] المردود، كيف كذبوا أخاك صالحاً عليه السلام، وكيف انتقمنا عنهم، تذكر يا أكمل الرسل قصصهم مع رسلهم، وما جرى عليهم من لدنَّا، فاصبر على ما أصابك من قومك، فإن ذلك من عزم الأمور، فسننتقم عنهم، مثلما انتقمنا من الأمم السالفة الهالكة.
{ بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بك وبكتابك { فِي تَكْذِيبٍ } [البروج: 19] أعظم من تكذيب الماضين، إنهم سمعوا قصصهم، وما جرى عليهم بشؤم تكذيبهم فلم يعتبروا، ولم ينزجروا، فسيلحقهم أشد مما لحقهم من العذاب عاجلاً وآجلاً.
{ وَ } بالجملة: { ٱللَّهُ } المطلع لعموم ما جرى في ضمائرهم من الكفر والشقاق { مِن وَرَآئِهِمْ } أي: وراء هوياتهم الباطلة، وتعيناتهم العاطلة { مُّحِيطٌ } [البروج: 20] لهم بالإحاطة الذاتية، بحيث لا يفوت منه سبحانه شيء من جرائمهم وآثامهم، سيجازيهم عليها بمقتضى إحاطته، وهم منكرون إحاطته؛ لذلك ينكرون كتابه الجامع لجميع الكمالات الدنيوية والأخروية، الغيبية والشهادية، ينسبونه إلى الشعر والكهانة، وأنواع التزويرات والمفتريات الباطلة عناداً ومكابرةً، مع أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ } فرقان بين الحق والباطل، والهداية والضلال { مَّجِيدٌ } [البروج: 21] عظيم عند الله مبين، مبيِّن لأحكام الدين المستبين.
مثبت { فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [البروج: 22] هو حضرة العلم الإلهي، ولوح قضائه المصون عن مطلق التحريف والتغيير.
جعلنا الله ممن تنور بنور الإيمان، وانكشف بحقية القرآن الفرقان.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المحمدي، المنكشف بحقية القرآن - هداك الله إلى حقيقته - أن تعتقد إلى أن تنكشف أن مطلق الحوادث الجارية في عالم الكون والفساد، إنما هو مثبت في لوح القضاء المصون عن سمت التبديل والتغيير؛ إذ ما يبدل القول والحكم لدى القادر الحكيم العليم.
والتصرفات الواقعة في عالم الملك والملكوت إنما هي مرفوعة مرسومة فيه على وجهها، بحيث لا يشذ شيء منها عنه، والقرآن المجيد منتخب منه، حاوٍ على عموم ما ثبت فيه إجمالاً.
ومن أدركته العناية السرمدية، وجذبته الجذبة الأحدية تفطن من رموز القرآن إلى نور الأسرار والمعارف التي فصلها الحق في لوح قضائه، وحضرة علمه، لكن الواصل إلى هذه المرتبة العليَّة أقل من القليل.
وبالجملة: فكن راجياً من الله الجميل، ولا تيأس من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلاَّ القوم الخاسرون.