التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ
١
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلطَّارِقُ
٢
ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ
٣
إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ
٤
فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ
٥
خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ
٦
يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ
٧
إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ
٨
يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ
٩
فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ
١٠
-الطارق

تفسير الجيلاني

{ وَٱلسَّمَآءِ } أي: وحق سماء الأسماء اللاهوتية، المصونة عن مطلق التغيير والزوال، المتعالية عن مدارك الوهم ومشاعر الخيال { وَ } بحق { ٱلطَّارِقِ } [الطارق: 1] الذي يتخطف منها على آحاد الرجال بعدما هاجروا عن بقعة الناسوت متشمرين بالعزيمة الخالصة نحو فضاء اللاهوت بمقتضى الجذب الجبلي، والميل الفطري المعنوي.
ثمَّ أبهمه سبحانه على حبيبه تعظماً وتفخيماً فقال: { وَمَآ أَدْرَاكَ } أيها المظهر الكامل اللائق لفيضان الطوارق اللاهوتية { مَا ٱلطَّارِقُ } [الطارق: 2] حين كانت مقيداً في عالم الناسوت، وبعدما أطلقك الحق عن قيود عالم الناسوت عرفت أن الطارق الذي يطرقك من عالم اللاهوت والجبروت.
{ ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ } [الطارق: 3] أي: الجذبة المضيئة الأحدية، اللامعة المتشعشعة، الناشئة من عالم العماء الذي هو محل كمال الجلاء والانجلاء الذاتي، والجذوة المشتعلة الساقطة من نار العشق والمحبة المفرطة الإلهية إلى شجرة ناسوتك، القائلة لك بعدما أمرك بالانخلاع عن كسوة ناسوتك:
{ إِنِّيۤ أَنَاْ رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ } [طه: 12].
واطرح لوازم نشأتك بعدما سمعت ما سمعت يا أكمل الرسل، فاسترح في مقعد صدقك عند ربك
{ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ } [طه: 12-13] لمظهرية المعارف والحقائق { فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىۤ } [طه: 13] إليك الآيات البينات لمراسم التوحيد واليقين.
وبالجملة: وحق هذين القسمين العظيمين { إِن كُلُّ نَفْسٍ } أي: ما كل نفس من النفوس الزكية والخبيثة { لَّمَّا } أي: إلاَّ { عَلَيْهَا حَافِظٌ } [الطارق: 4] من قِبَل الحق، يحفظ لها أقوالها وأفعالها وأحوالها، وحالاتها ومقاماتها؛ حتى لا يدفعها ويسلمها إلى المقادير التي حصل منها، وصدر على طبقها حتى جوزيت على مقتضاها.
وبعدما سمع الإنسان ما سمع من الحكمة العليَّة الإلهية { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ } المركب من الجهل والنسيان، وليتأمل في منشئة { مِمَّ خُلِقَ } [الطارق: 5] يعني: فليراجع وجدانه، ولينظر مبدأه ومنشأه؛ حتى يظهر له من أيّ شيء قدر وجوده، فعرف قدره، ولم يتعد طوره.
{ خُلِقَ مِن مَّآءٍ } مهين مسترذل { دَافِقٍ } [الطارق: 6] مدفوق مصبوب في الرحم على وجه التلذذ والاضطراب من كلا الجانبين.
مع أنه { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ } [الطارق: 7] أي: من ظهر الرجل وصدر المرأة.
وبعدما تأمل الإنسان في مبدئه، وعرف أصل منشئه تفطن منه أن وفقه الحق إلى قدرة الصانع العليم، الحكيم الذي خلقه من هاتين الفضلتين الخبيثتين، وربَّاه إلى أن صار بشراً سوياً، قابلاً لفيضان أنواع المعارف والحقائق، لائقاً للخلافة الإلهية، مهبطاً للوحي والإلهام.
وتفطن أيضاً، بل جزم وتيقن أن من قدر على خلقه وإيجاده ابتداءً { إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ } وإعادته وبعثه من القبور { لَقَادِرٌ } [الطارق: 8] ألبتة، فكيف ينكر قدرته سبحانه على البعث والحشر، مع أن الإعادة أهون عنده من الإبداء؟!
تأملوا أيها المجبولون على فطرة العبرة والتكليف { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ } [الطارق: 9] وتكشف الساتر، ويظهر ما خفي في الضمائر من الإنكار والإصرار، وفواسد النيات والأعمال.
{ فَمَا لَهُ } أي: للإنسان حينئذٍ { مِن قُوَّةٍ } يدفع عن نفسه ما يترتب على أعماله وأحواله من العذاب والعقاب على وجه الجزاء { وَلاَ نَاصِرٍ } [الطارق: 10] يدفعه عنه وينصره؛ إذ كل نفس يومئذٍ رهينة بما كسبت، مشغولة بجزاء ما جرت خيراً كان أو شراً.