التفاسير

< >
عرض

سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ
١٠
وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلأَشْقَى
١١
ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ
١٢
ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا
١٣
قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ
١٤
وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ
١٥
بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا
١٦
وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ
١٧
إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ
١٨
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ
١٩
-الأعلى

تفسير الجيلاني

ولا تيأس يا أكمل الرسل من مبالغتهم في الإعراض والانصراف عنك وعن تذكيرك إنه { سَيَذَّكَّرُ } ويتعظ بتذكيرك { مَن يَخْشَىٰ } [الأعلى: 10] عن بطش الله، وعن كمال قدرته على وجوه الانتقام.
وبعدما تأملت في القرآن مراراً، وتدبرت في فحاويه تكراراً، تنبه على حقيقته، فتذكر به وامتثل بما فيه { وَيَتَجَنَّبُهَا } أي: يعرض عنها وعن سماعها؛ يعني: الذكر والعظة التي هي القرآن { ٱلأَشْقَى } [الأعلى: 11] أي: الكافر، الذي جبل على فطرة الشقاوة وجبلة الجهل والغباوة.
{ ٱلَّذِى يَصْلَى } ويدخل في النشأة الأخرى { ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ } [الأعلى: 12] التي هي بأضعاف نار الدنيا في الحرقة والحرارة، لذلك قال: "كبرى" أو في الدرك الأسفل منها وهو أكبرها.
{ ثُمَّ } بعدما دخل في نار القطعية والحرمان بأنواع الخيبة والخذلان { لاَ يَمُوتُ فِيهَا } يعني: يستريح { وَلاَ يَحْيَا } [الأعلى: 13] حياة نافعة طيبة كسكان بقعة الإمكان، الداخلين في نيران الشهوات ودركات الأماني والآمال، لا يموتون حتى يستريحوا، ولا يحيون بلا منية إلاَّ منية وغل الأمل وسلسلة الحرص.
وبالجملة: هم معذبون في عموم الأوقات والأحوال، لا نجاة لهم عنه ما داموا في قيد الحياة، وبعدما ماتوا بأنواع الحسرات، سيصلون في أسفل الدركات وأصعب العقوبات.
هب لنا جذوة من نار المحبة، تنجينا عن نيران الإمكان في النشأة الأولى والأخرى.
ثمَّ قال سبحانه على سبيل التنبيه { قَدْ أَفْلَحَ } وفاز بالدرجة القصوى والمرتبة العليا { مَن تَزَكَّىٰ } [الأعلى: 14] وتطهر عن أدناس الطبائع وأكدار الهيولى من الميل إلى الدنيا وما فيها من اللذات الفانية، والشهوات الغير الباقية، وتوجه نحو المولى بالعزيمة الخالصة.
{ وَذَكَرَ } في أوائل الطلب ومبادئ الإرادة { ٱسْمَ رَبِّهِ } أي: جنس الأسماء الإلهية متفطناً بمعناها، يقظان فرحان متشوقاً { فَصَلَّىٰ } [الأعلى: 15] ومال نحوه سبحانه في الأوقات المأمورة المحفوظة، محرماً على نفسه عموم مبتغاه من دنياه.
{ بَلْ } هؤلاء الحمقى الهلكى التائهون في تيه الضلال، المغلولون بأغلال الأماني والآمال { تُؤْثِرُونَ } وتختارون { ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } [الأعلى: 16] المستعارة الفانية على الحياة الحقيقة الأخروية الباقية؛ لذلك يجمعون أسباب الفساد والإفساد، ولا يتزودون ليوم الميعاد.
{ وَ } الحال أنها؛ أي: { ٱلآخِرَةُ } وما وعد فيها من اللذات الروحانية الباقية { خَيْرٌ } مما في الدنيا وأمانيها { وَأَبْقَىٰ } [الأعلى: 17] وأدوم بحيث لا انقطاع لها.
{ إِنَّ هَـٰذَا } الذي وعظك الحق به يا أكمل الرسل، ووصاك بالفلاح { لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ } [الأعلى: 18] أي: مثبت، مسطور على وجهه، وتلك الصحف { صُحُفِ } جدك يا أكمل الرسل { إِبْرَاهِيمَ } الفائق في الخلة والفلاح على عموم أرباب الصلاح والنجاح { وَمُوسَىٰ } [الأعلى: 19] الكليم الفائز من عند الله بالفوز العظيم، وهو مرتبة التكليم مع الله العزيز العليم.
جعلنا الله من خدَّامهم وتراب أقدامهم.
خاتمة السورة
عليك أيها الطالب للفلاح الأخروي الحقيقي والنجاح المعنوي أن تزكي أولاً نفسك عن مطلق الرذائل العائقة عن التوجه الحقيقي نحو الحق، وتصفي سرك عن الميل إلى مزخرفات الدنيا الدنية وأمانيها الغير الهنية، فلك أن ترغب نفسك عن مقتضيات الإمكان، ولا تغريها إلى لذاتها وشهواتها، فعليك أن تلازم الخلوة والخمول، وتجتنب عن أصحاب الثروة والفضول حتى يعينك الحق إلى التلقي بالقبول بما يوجبك الفلاح والفوز بالنجاح.
افتح لنا أبواب رحمتك إنك أنت الفتاح.