التفاسير

< >
عرض

سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ
١
ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ
٢
وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ
٣
وَٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ
٤
فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَىٰ
٥
سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ
٦
إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ
٧
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ
٨
فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ
٩
-الأعلى

تفسير الجيلاني

{ سَبِّحِ } يا من غرق في تيار بحث زخَّار الوجود، وتلاشى في لمعات شمس الشهود { ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } [الأعلى: 1] وإن لم يبق لك التوسل بمطلق الأسماء، بعدما فنيت في المسمى.
ثمَّ تذكر حصة عبوديتك نعمه الواصلة إليك بعدما فزت بخلع البقاء، وتذكيراً استحضاراً لمَّا جرى عليك من الشئون والأطوار في نشأة ناسوتك؛ إذ هو سبحانه القادر { ٱلَّذِي خَلَقَ } وأوجد عموم ما خلق وأظهر { فَسَوَّىٰ } [الأعلى: 2] خلق الكل بحوله وقوته، مع ما يتعلق به، ويترتب عليه في معاشه ومعاده.
{ وَ } هو { ٱلَّذِي قَدَّرَ } المقادير ودبر التدابير وأحسن التصاوير وأودع فيها ما أودع من الاستعدادات والقابليات الجالبة لأنواع الكمالات، وبعدما عدلها وهيأها { فَهَدَىٰ } [الأعلى: 3] أي: هدى الكل إلى ما جبلوا لأجله بوضع التكاليف المشتملة على الأوامر والنواهي، والأحكام الواجبة والمندوبة، والأخلاق المرضية والآداب السنية؛ ليتمرنوا على الأمور المذكورة ويترسخوا فيها بالعزيمة الخالصة حتى يفيض عليهم طلائع سلطان الوحدة الذاتية المنقذة لهم عن ورطة الناسوت، الموصلة إلى فضاء اللاهوت.
{ وَ } هو سبحانه { ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ } بكمال قدرته { ٱلْمَرْعَىٰ } [الأعلى: 4] أي: أنبت وأظهر المرعى الحاصل في مرتع الدنيا بأجناسها وأنواعها وأصنافها؛ تتميماً لتربية دواب الطبائع وحوامل الأركان القابلة لتأثيرات عالم الأسماء والصفات؛ ليتقوموا بها ويستعدوا لفيضان المعارف والحقائق، وأنواع الكمالات اللائقة التي هم جُبلوا لأجلها.
وبعدما حصل لهم ما حصل من الكمالات المنتظرة في نشأة الناسوت { فَجَعَلَهُ } سبحانه مرعى العالم مع كمال نضارتها وبهائها في نظر شهود أولي الألباب، الناظرين ينور الله من وراء سدل الأسماء والصفات { غُثَآءً } يابساً، بل سراباً باطلاً بعدما تحققوا بمقر التوحيد، ورفعوا وسائل الأوصاف والأسماء عن البين، فصار الكل حينئذٍ هباء { أَحْوَىٰ } [الأعلى: 5] عدماً لا يبقى، أسود موحشاً مظلمّاً، بعدما كان أخضر مفرحاً.
ثمَّ التفت سبحانه نحو حبيبه صلى الله عليه وسلم على سبيل التفضل والامتنال فقال على وجه الوصاية والتذكير: { سَنُقْرِئُكَ } ونجعلك قارئاً مراقباً على وجوه الوحي والإلهام النازل من لدنا عليك، مع أنك أمي لم يعهد منك أمثالها { فَلاَ تَنسَىٰ } [الأعلى: 6] يعني: عليك أن تضبط هذه النعمة وتحفظها على وجهها، وتواظب على أداء شكرها بلا فوت شيء منها وزيادة عليها وتحريف فيها.
{ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } العليم الحكيم نسيانه منك بأن نسخ تلاوته أو حكمه أو كلاهما على مقتضى حكمته المتقنة المستحكمة ومصلحته، وبعدما سمعت يا أكمل الرسل ما سمعت فدم عليها، ولا تغفل سراً وجهراً، وحالاً ومقالاً عنها { إِنَّهُ } سبحانه { يَعْلَمُ } منك { ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ } [الأعلى: 7] أي: ظاهرك وباطنك؛ يعني: ما امتثلت بظاهرك من مقتضيات الوحي الإلهام، وبباطنك من الإخلاص في النيات والحالات والخلوص في العزائم والمقامات.
{ وَ } اعلم يا أكمل الرسل أنَّا بمقتضى عظيم جودنا معك { نُيَسِّرُكَ } ونوفقك على التدين والتحفظ بمقتضيات الوحي { لِلْيُسْرَىٰ } [الأعلى: 8] أي: للطريقة السلهة السمحة البيضاء.
وبعدما يسرنا لك وسلهنا عليك طريق الهداية والإرشاد { فَذَكِّرْ } يعني: عظ بالقرآن وبين الأحكام الموردة فيه للناس { إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ } [الأعلى: 9] أي: سواء نفعت عظتك وتذكيرك إياهم أو لم تنفع؛ إذ ما عليك إلاَّ البلاغ، وعلينا الحساب.