التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُمْ بِٱلْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١١
وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٢
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ
١٣
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي ٱلأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
١٤
-يونس

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن كرمه بالبر مع أهل الشريعة بقوله: { وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُمْ بِٱلْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } [يونس: 11] إلى قوله: { كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [يونس: 14].
اعلم أن في قوله: { وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُمْ بِٱلْخَيْرِ } إشارة إلى أن الشر من نتائج أخلاق الناس وأوصافهم الذميمة النفسانية ليس له مدد من الله ليظهر أثره فيهم عاجلاً، بل يكلهم الله إلى أنفسهم والصفات المجبولة عليها، والخير كله من نتائج نظر العناية الربانية يستمده من بحر الفضل والكرم، فيظهر أثره فيهم آجلاً وهو سر قوله تعالى:
"سبقت رحمتي على غضبي" ، ولو كان السبق للغضب والقهر؛ لقضى إليهم أجلهم بهلاك الصورة، والمعنى يدل على هذا التأويل قوله تعالى: { فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } [يونس: 11] أي: الذين لا يشتاقون إلى لقائنا فيسلكون طريق وصلنا على أقدام الخيرات، { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [يونس: 11] المعنى: فنذرهم بالخذلان إلى طغيان نفوسهم الأمارة بالسوء، متحيزين في دينه ضلالة النفوس؛ ليزدادوا شراً مع شرهم، فيظهر أثره فيهم بالتدريج آجلاً.
وفي قوله تعالى: { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً } [يوسن: 12] أشار إلى خاصية نفس الإنسان أنها لا ترجع إلى الله طبعاً إلا في مقام الحاجة الضرورية بالاضطرار في أية حالة يكون من حالاتها، { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ } [يونس: 12] أي: إذا استجبنا دعاءها وقضينا حاجتنا، { مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ } [يونس: 12] عاد المشئوم إلى طبعه، فرجعت قهقهري إلى خاصية أنانيتها وهي نسيان حضرتنا وكفران نعمتنا، إن الإنسان لظلومٌ كفار، { كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ } [يونس: 12] أي: للمقصرين في محبتنا وطلبنا والمجاوزين عن حد محبة غيرنا وطلب ما سوانا، { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [يونس: 12] من الإسراف في تركنا وطلب غيرنا.
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ } [يونس: 13] أي: أوضعوا محبتنا وطلب لقائنا في غير موضعها من الدنيا والآخرة وما فيهما، { وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ } بالحجج القاطعة قالاً وحالاً؛ ليدلوهم بها إلى محبتنا وطلبنا، { وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } [يونس: 13] بتلك الحجج؛ ليهتدوا إلينا بنور الإيمان إذ وكلناهم إلى أنفسهم بالخذلان، { كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ } [يونس: 13] فكلهم إلى أنفسهم بشؤم جرائمهم فهلكهم كما هلكنا القرون الماضية في متابعة أهوائهم واستغراقهم في طلب شهواتهم، { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ } [يونس: 14] يا أمة محمد { خَلاَئِفَ فِي ٱلأَرْضِ مِن بَعْدِهِم } [يونس: 14] أي: من إهلاكهم به يشير إلى أن لهذه الأمة اختصاصاً باستحقاق الخلافة الحقيقية التي أودعها في آدم عليه السلام بقوله تعالى:
{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة: 30] ولهذا السر ما كان في أمة من الأمم من الخلفاء ما كان في هذه الأمة بالصورة والمعنى، { لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [يونس: 14] في خلافتنا، ثم اعلم أن المخالفة صورة ومعنى كما أن صورة الخلافة مبنية على الحكم بين الرغبة بالعدل والسوية وقانون الشرع والاجتناب من متابعة الهوى والطبع، كذلك معنى الخلافة مبينة على الحكم بين الرغبة المعنوية وهي: الجوارح والأعضاء والقلب والروح والسر والنفس وصفاتها وأخلاقها والحواس الخمسة والقوى النفسانية والخلق كما كان سيرة الأنبياء - عليهم السلام - وخواص الأولياء في طلب الحق ومجانية الباطل، وترك ما سوى الله للوصول إلى الله، وسيأتي شرحها في موضعه إن شاء الله.