التفاسير

< >
عرض

قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ
٣٣
وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٣٤
أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ
٣٥
وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
٣٦
وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ
٣٧
وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ
٣٨
-هود

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَآءَ } [هود: 33] فيه إشارة بهم إلى أن وقوع العذاب بمشيئة الله لا بالأعمال الموجبة للوقوع، { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } [هود: 33] أي: بمعجزي الله أن يأتيكم العذاب في الدنيا والآخرة، { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ }[هود: 34] في الأزل، { أَن يُغْوِيَكُمْ } [هود: 34] إشارة إلى أن نصح الأنبياء ودعوتهم لا يفيد الهداية مع إرادة الله الغواية.
{ هُوَ رَبُّكُمْ } [هود: 34] أي: استعداد،
{ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ } [الانفطار: 8] أي: صفة من السعادة التي أراد بكم ربكم، { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [هود: 34] على طريق السعادة والشقاوة كما شاء في الأزل، { أَمْ يَقُولُونَ } [هود: 35] النفس والهوى والطبيعة، { ٱفْتَرَاهُ } [هود: 35] الروح هذه المعاني من عنده.
{ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي } [هود: 35] أي: إجرام افترائي، { وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ } [هود: 35] من التكذيب، وفيه إشارة إلى أن ذنوب النفس لا تنافي صفاء الروح ولا يكدرها ما كان الروح متبرئاً من ذنوب النفس متأسفاً على معاملات النفس وتتبع هواها.
ثم أخبر عن أهل الإيمان وأهل الخذلان بقوله تعالى: { وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ } [هود: 36] أي: نوح الروح، { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ } [هود: 36] وهم القلب وصفاته، والسر والنفس وصفاتها، والبدن وجوارحه، { إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [هود: 36] من خواص العباد وهم: القلب وصفاته، والسر وصفات النفس والبدن وجوارحه، فأمَّا النفس فإنها لا تؤمن أبداً اللهم إلا نفوس الأنبياء - عليهم السلام - وخواص الأولياء، فإنها تسلم أحياناً دون الإيمان وحال النفوس كأحوال الأعراب كقوله تعالى:
{ قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات: 14] فإن معدن الإيمان القلوب ومظهر الإسلام النفوس؛ لأن الإسلام الحقيقي الذي قال تعالى فيه: { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } [الزمر: 22] وهو ضوء قد انعكس من مرآة القلب المنور بنور الإيمان، وأمَّا إسلام الأعراب إذ قال تعالى لهم: { وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات: 14] لم يكن ضوء منعكساً من مرآة القلب المنور، ولكن هو ضوء منعكس من النور المودع في كلمة التوحيد والشهادتين والأعمال الصالحة المشروعة عند إتيانها بالصدق.
فاعلم أن إيمان الخواص ينزل من الحق تعالى بنظر عناية القلوب القابلة للفيض الإلهي بلا واسطة، وإيمان العوام يدخل في قلوبهم من طريق الإقرار باللسان والعمل بالأركان، { فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [هود: 36] نفوس السعداء من أعمال الشر، فإنها لهم كالجسد للأكسير ينقلب ذهباً مقبولاً عند طرح الروح عليها، كذلك تنقلب أعمال الشر خيراً عند طرح التوبة عليها.
كما قال تعالى:
{ فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [الفرقان: 70] ولا تبتئس على نفوس الأشقياء بما كانوا يفعلون؛ لأنها حجة الله على شقاوتهم وبتلك السلاسل يسبحون في النار على وجوههم.
{ وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } [هود: 37] أي: اتخذ يا نوح الروح سفينة الشريعة بنظرنا لا بنظرك، فإن نظرك تبع الحواس يبصر ظاهرها، ويفعل عن حقائقها وأسرارها وحكمها ومعانيها، فتجرد عن آفات الحواس والوهم والخيال والنفس وصفاتها والعقل المنسوب بها؛ لتستحق تزكية النفس تحليها الإلهامات الربانية بفجور النفس وتقواها؛ لتكون سفينة الشريعة معمولة لنجاة راكبها من طوفان النفس والدنيا؛
{ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ } [هود: 37] أي: النفوس فإن الظالم شيمتها،
{ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب: 72]؛ لأنها تضع الأشياء في غير موضعها تضع عبادة الحق في هواها والدنيا وشهواتها، وهذا الخطاب يحسم مادة الطمع من إيمان النفوس، وفيها حكمة يطول شرحها، ومنها ترقي أهل الكمالات إلى الأبد فافهم جدّاً.
وإن النفس ممكر مكر الحق حتى لا يأمن منها وصفاتها، { إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } [هود: 37] في طوفان الفتن إلا من سلمه الله منه، والسلامة في ركوب سفينة الشريعة فإن نوح الروح إن لم يركبها كان من المغرقين.
{ وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ } [هود: 38] أي: عند تركيب أركان سفينة الشريعة واستعمالها، { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ } [هود: 38] وهم النفس وهواها وصفاتها، { سَخِرُواْ مِنْهُ } [هود: 38] أي: استعمال أركان الشريعة الظاهرة، فإنها بمعزل عن أسرارها وأنوارها، { قَالَ } [هود: 38] يعني: نوح الروح، { إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا } [هود: 38] بجهلكم عن فائدة هذه السفينة، { فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ } [هود: 38] إذ نجونا وهلتكم لعلمنا بها وجهلكم بها، { كَمَا تَسْخَرُونَ } [هود: 38] منا بجهلكم بها.