التفاسير

< >
عرض

وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ
٤٥
قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ
٤٦
قَالَ رَبِّ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِيۤ أَكُن مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٤٧
قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ
٤٨
تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا فَٱصْبِرْ إِنَّ ٱلْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ
٤٩
-هود

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن آفة الطبيعة مع أهل الشريعة بقوله تعالى: { وَنَادَى نُوحٌ } [هود: 45] أي: نوح الروح، { رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي } [هود: 45] أي: النفس المتولدة من أزدواج الروح والقالب، { مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ } [هود: 45] وذلك أن الله تعالى لمَّا أراد بحكمته أن ينزل الأرواح المقدسة العلوية من أعلى عليين جواره، وقربه إلى أسفل سافلين القلب قالت أرواح الأنبياء والأولياء وخواص المؤمنين: يا ربنا وإلهنا تنزلنا من أعلى مقامات قربك إلى أسفل دركات بعدك، ومن عالم البقاء إلى عالم الفناء، ومن دار السرور واللقاء إلى دار الحزن والبلاء، ومن منزل التجرد والتواصل إلى منزل التوالد والتناسل، ومن رتبة الاصطفاء والاجتباء إلى مرتبة الاجتهاد والابتلاء، فوهبهم الله من عواطف إحسانه بأن ينجيهم وأهليهم من ورطات الهلاك، فكان من قضية حكمته أن يكون لنوح عليه السلام أربعة بنين: ثلاثة منهم مؤمنون وواحد كافر، فكذلك حكم أن يكون للروح أربعة بنين: ثلاثة منهم مؤمنون وهم: القلب والسر والعقل، وواحد كافر وهو النفس، فكما كان ثلاثة من بني نوح معه في السفينة، وكان واحد في معزل منه، فكذلك ثلاثة من بني الروح معه كانوا معه في سفينة الشريعة وكان واحد وهوكافر النفس في معزل منه من الدين والشريعة، فلما أشرف ولده الكافر على الغرق في بحر الدنيا وطوفان الآخرة.
{ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ } [هود: 45] يعني: فإن أنجيته أو أغرفته أنت أعدل العادلين فيما تفعل؛ لأنك حكيم وأحكم الحكماء لا تخلو أفعالك من حكمة وعدل أنت أعلم بها.
{ قَالَ } [هود: 46] أي: الرب تعالى للروح، { يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [هود: 46] أي: من أهل دينك وملتك والأهلية على نوعين، أهلية القرابة والدين وما نفى أهلية القرابة لتولدها من الروح ثم أظهر علة نفي الأهلية الدينية فقال: { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [هود: 46] أي: خُلق الأمارية بالسوء وهذه سيرتها أبداً، ثم أدب الروح آداب أهل القُربة فقال: { فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [هود: 46] أي: علم حقيقي بأن يجوز أهل القربة على بساط القرب هذا الانبساط { إِنِّيۤ أَعِظُكَ } [هود: 46] يا روح القدس { أَن تَكُونَ } [هود: 46] أي: على البساط بهذا الانبساط.
{ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } أي: من النفوس الجاهلة الظالمة، وفيه إشارة إلى أن الروح العالم العلوي يصير بمتابعة النفس وهواها جاهلاً سفلي الطبع دنيء الهمة، { قَالَ } [هود: 47] أي: الروح: { رَبِّ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } [هود: 47] من التماس نجاة النفس الممتحنة بآفات الدنيا وشهواتها من طوفان الفتن، { وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي } [هود: 47] تؤديني بأنوار المغفرة { وَتَرْحَمْنِيۤ } [هود: 47] على عجزي عن الاهتداء بغير هداك { أَكُن مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [هود: 47] يشير إلى الرحمة وهي المانعة للروح من الخسران.
{ قِيلَ يٰنُوحُ } [هود: 48] أي: نوح الروح، { ٱهْبِطْ } [هود: 48] إنزل من سفينة الشريعة وتحمل تكاليفها عند مفارقة الجسد وخلاص طوفان النفس، { بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ } [هود: 48] السلام: هو النجاة، والبركات: هي الدرجات، { وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } [هود: 48] في سفينة الشريعة من القلب والسر والنفس والعقل، { وَأُمَمٌ } [هود: 48] أي: النفوس التي لم تكن مع الروح في سفينة الشريعة، { سَنُمَتِّعُهُمْ } [هود: 48] من الحظوظ النفسانية الدنيوية، { ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا } [هود: 48] من بعدنا، { عَذَابٌ أَلِيمٌ } [هود: 48] تمنعها من الحظوظ، وتمرنها على الانقياد.
ثم أخبر أن هذه الإشارات في تربية الروح والنفس في بيان حالها وفساد أمرها أمور غيبية فقال: { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ } [هود: 49] يا محمد، { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا } [هود: 49] أي: من قبل أن أشرنا بها إليك وعلمناكها، { فَٱصْبِرْ } [هود: 49] على تربية الروح والنفس على ما أشرنا به إليك، { إِنَّ ٱلْعَاقِبَةَ } [هود: 49] أي: الخاتمة الحسنة، { لِلْمُتَّقِينَ } [هود: 49] لمن اتقى عن طوفان فتن الدنيا والنفس والهوى بسفينة الشريعة عن تشييد هذه القاعدة.