التفاسير

< >
عرض

وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ ٱلْمُتَّقِينَ
٣٠
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ كَذَلِكَ يَجْزِي ٱللَّهُ ٱلْمُتَّقِينَ
٣١
ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
٣٢
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلـٰكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
٣٣
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٣٤
-النحل

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ } [النحل: 30] أهل الصدق والإرادة الذين { { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } [الفتح: 26] { مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُم } [النحل: 30] أي: على قرب أهل الحق من المواهب { مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ } [النحل: 30] أي: أثنوا عليهم وصدقوا بما أنزل إليهم من ربهم.
ثم أخبر من جزاء أهل الحسنات في الدنيا أنه درجات الجنات في العقبى بقوله تعالى: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ } [النحل: 30] أي: من أحسنوا أعمالهم بالصالحات وأخلاقهم بالحميدات، وأحوالهم بالانقلاب عن الخلق إلى الحق { حَسَنَةٌ } أي: من الله له أن ينزل منازل الواصلين الكاملين في الدنيا { وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ } [النحل: 30] أي: خير لهم حين كشف عنهم غطاء صورة البشرية عند مفارقة الأجسام وارتفاع بقايا حجب نفوسهم فأكرمهم الله وأمنهم وبقوله: { وَلَنِعْمَ دَارُ ٱلْمُتَّقِينَ } [النحل: 30] يشير إلى أن للأتقياء الواصلين داراً غير دار الدنيا ودار الآخرة وأنهم فيها، كما صرح بقوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [القمر: 54-55] فدارهم مقعد الصدق في مقام العندية ونعم الدار بقوله: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } [النحل: 31] أي: الأتقياء { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [النحل: 31] يشير إلى أن نن الأتقياء من مشيئته الجنة ونعيمها ومن مشيئة العبور على الجنة والخروج إلى مقعد الصدق في مقام العندية { لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ } [النحل: 31] أي: ما يختارون من الجنة ومقعد الصدق { كَذَلِكَ يَجْزِي ٱللَّهُ ٱلْمُتَّقِينَ } [النحل: 31] كل طائفة منهم على حسب همته ومشيئته.
ثم وصف الأتقياء فقال: { ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ طَيِّبِينَ } [النحل: 32] أي: طيبي الأعمال عن دنس الشهوات والمخالفات، وطيبي الأخلاق عن المذمومات الملوثة بالطبيعيات دون الشرعيات، وطيبي الأحوال عن وصمة ملاحظات الكونين لما يتخطى يد الثقلين { يَقُولُونَ } [النحل: 32] الملائكة { سَلامٌ عَلَيْكُمُ } [النحل: 32] أي: يبلّغون إليهم سلام الله، ثم يشير بقوله: { ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [النحل: 32] إلى أن دخول الجنة للأتقياء جزاء إصلاح أعمالهم، والعبور عليها جزاء إصلاح أخلاقهم، والخروج إلى المقعد الصدق جزاء إصلاح أحوالهم، فكل متقٍ مقام بحسب معاملته مع الله.
وبقوله: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ } [النحل: 33] يشير إلى خواص الأتقياء أن مقامهم في الجنة لا يكون لحظوظ النفوس ولا للإقامة فيها، وإنما وقوفهم فيها لانتظار إتيان الملائكة لجواز العبور عليها فإنهم دخلوا بجوارهم فينظرون أن تاتيهم الملائكة { أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } [النحل: 33] أي: جذبات الحق للوصول والخلوة التي لا يسعهم فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج حين بقي عند جبريل في سدرة المنتهى وعبر بالرفرف إلى قرب قاب قوسين، وبقي الرفرف ثمة فكان ينتظر أمر ربه بقوله تعالى: "ادن مني" فجذبه الأمر أنزله مقام أو أدنى، ثم قال: { كَذَلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [النحل: 33] من الأنبياء والأولياء انفصلوا عما سوى الله ليتصلوا به اتصالاً بلا انفصال.
ثم أخبر عن حال المسرفين الظالمين محرومي هذه المقامات والكرامات، فقال: { وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ } [النحل: 33] بجريان الاستعداد الذي أكرم به أولياءه، ثم كلفهم بما كلف به أولياءه { وَلـٰكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [النحل: 33] باستعمال استعدادهم في غير موضعه وهو صرفه في طلب الدنيا وشهواتها، واستيفاء لذاتها والاستهزاء بالأنبياء والأولياء ودعوتهم ونصحهم { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } [النحل: 34] فازدادوا كفراً ونفاقاً واستهزاء { وَحَاقَ بِهِم } [النحل: 34] أي: بإفساد استعدادهم { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [النحل: 34].