التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ
٤٣
بِٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
٤٤
أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ
٤٥
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ
٤٦
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ
٤٧
أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ
٤٨
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
٤٩
يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
٥٠
-النحل

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

وفي قوله: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ } [النحل: 43] إشارة إلى أن الرسالة والنبوة والولاية لا تسكن إلا في قلوب الرجال الذين { { لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } [النور: 37] وهم أهل الذكر الذي قال الله فيهم: { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 43] فإنهم الرجال في طلب الحق وترك ما سواه وإنهم يعرفون الرجال ليتبينوا { بِٱلْبَيِّنَاتِ } [النحل: 44] التي من خصائص نور الذكر { وَٱلزُّبُرِ } [النحل: 44] يعني: فيما قرءوا في الكتب، ثم جعل الله نبيه وحبيبه أهل الذكر وشرفه بقوله: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ } [النحل: 44] يعني: كان يصعد الذكر إلينا بمقتضى قولنا: { { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } [البقرة: 152] أنزلنا إليك ذكرنا { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل: 44] بنور ذكرنا { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل: 44] ما نزل إليهم بنور ذكرنا { وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل: 44] فيما يستمعون من بيان القرآن والأحكام منك على أنك أمي ما قرأت الكتب المنزلة، ولا تعلمت العلوم. وإنما يتبين لهم من نور الذكر ما يجعلهم يلازمون الذكر ويواطبون عليه ليصلوا إلى مقام المذكورين في متابعتك ورعاية سنتك.
ثم أخبر عن المنكرين الماكرين الممكورين تهديداً لهم بقوله: { أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ } [النحل: 45] أي: آمنوا بمكر الله أن ينكر بهم بشؤم سيئات مكرهن أن يخسف الله بهم الأرض؛ أي: أرض البشرية ودركات السفل { أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ } [النحل: 45] بالمكر والاستدراج { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [النحل: 45] أنه من أين آتاهم من قبل الأعمال الآخرة بالرياء أو من أعمال الآخرة إلى الدنيا بالهوى الدنيوية أو من قبل الأعمال الأخروية { أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ } [النحل: 46] من أعمال الدنيا { فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } [النحل: 46] أي: بمعجز الله على تعذيبهم { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ } [النحل: 47] أي: ينقص من مقاماتهم ودرجاتهم بلا شعورهم عليه { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [النحل: 47] بالعباد إذا أعطاهم حسن الاستعداد رحيم عليهم عند فساد استعداداتهم بالمعاصي بألاَّ يأخذهم في الحال ويتوب عليهم في المآل، وتقبل توبتهم بالفضل والنوال.
ثم أخبر عن الإجلال لسجود الظلال { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } [النحل: 48] يشير إلى أن المخلوقات على نوعين: منها ما خلق من شيء كعالم الخلق وهو عالم الأجسام، ومنها ما خلق من غير شيء كعالم الأمر وهو عالم الأرواح، كما قال تعالى:
{ { أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ } [الأعراف: 54] دائماً سمي عالم الأرواح بالأمر؛ لأنه خلقه بأمر كن من غير شيء بلا زمان، كما قال الله تعالى: { { خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [مريم: 9] يعني: خلقت روحك من قبل خلق جسدك { وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [مريم: 9].
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام" { يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ } [النحل: 48] يتفيأ الظلال إلى ما أودع الله في كل شيء من عالم الأجسام خاصية، وهي ظل ذلك الشيء يميل بها عن يمين السعادة أهل الشقاوة، وهم أصحاب اليمين أو عن شمال الشقاوة أهل الشقاوة وهم أصحاب الشمال، وهذه الخواص في الأشياء، ويسجدون لله انقياداً لما خصهم به مسخرين متذللين، وإنما وحد اليمين وجمع الشمال؛ لغلبة أصحاب الشمال على أصحاب اليمين، ثم خرج به.
وقال: { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } [النحل: 49] بل يتذللون لكل شيء من بين يدي صانعه ساجد سجود يلائم حاله كما أن كل شيء يسبح بحمده تسبيحاً يلائم حاله، فتسبيح بعضهم بلسان المقال، وتسبيح بعضهم بلسان الحال، والله يعلم لسان حالهم كما لسان مقالهم.
واعلم أن الله تعالى أعطى لكل شيء من أصناف المخلوقات من الحيوانات إلى الجمال سمعاً وبصراً ولساناً وفهماً به يسمع كلام الحق ويبصر شواهد الحق ويكلم الحق ويفهم إشارته، كما أخبر الله تعالى عن حال السماوات والأرض وهما في العدم أعطاهما سمعاً به سمعاً قوله:
{ { ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } [فصلت: 11] وأعطاهما فهماً به فهما كلامه وأعطاهما لساناً به قالتا: { { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [فصلت: 11] فكل شيء يسبح الله بذلك اللسان ويسجد له بذلك الطوع، فمن هذا اللسان الملكوت بمعجزة النبي صلى الله عليه وسلم كانت الحصى تسبح له في يده، وكذلك الأحجار الثلاثة كلمت داود عليه السلام، وأوبت الجبال معه لما قال تعالى: { { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء: 44].