التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ ٱلْسُّوۤءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٩٤
وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
٩٥
مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوۤاْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٩٦
مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٩٧
فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ
٩٨
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
٩٩
-النحل

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أكد تهديد الطالب الناكث بإعادة قوله: { وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } [النحل: 94] أي: لا تتخذوا معاهدتكم مع المشايخ شبكة تصادون بها الدنيا، وقبول الخلق فتزل أقدامكم عن صراط الطلب بعد ثبوتها مدة عليه { وَتَذُوقُواْ ٱلْسُّوۤءَ } [النحل: 94] تجارة الدنيا والآخرة { بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [النحل: 94] وطلبه متعرضاً إلى الدنيا ونعيمها { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النحل: 94] بالانقطاع والإعراض عن الله، وما ذنب أعظم منه ولا عذاب أعظم من القطيعة عن الله والحرمان منه.
{ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ } [النحل: 95] أي: بالمعاهدة على طلب الله، { ثَمَناً قَلِيلاً } [النحل: 95] وهو متاع الدنيا الفانية لقوله:
{ { مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ } [النساء: 77] { إِنَّمَا عِنْدَ ٱللَّهِ } من القربات والكمالات { هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [النحل: 95] قدرها بأداء حقها { مَا عِندَكُمْ } [النحل: 96] لله من الدنيا ونعيمها { يَنفَدُ } [النحل: 96] ويفنى { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ } [النحل: 96] لكم من الكمالات { بَاقٍ } [النحل: 96] إلى الأبد { وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوۤاْ } [النحل: 96] على مقاساة شدائد طلب الله { أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النحل: 96] يعني: بأوفر أجر كانوا عليه يعملون بأنهم على أجر قد سمعوا به وفهموا منه على قدر عقولهم، وقد قال تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر".
ثم أخبر عما أُعد للطالبين الراغبين بقوله تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ } [النحل: 97] يشير بالذكر إلى القلب، وبالأنثى إلى النفس، فالعمل الصالح من النفس استعمال الشريعة بتقوى القلب وصدقه على وفق الطريقة تزكية بصفات الله والتخلق بأخلاقه لطلب الله، والإعراض عما سواه، وبقوله: { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [النحل: 97] يشير إلى إحياء كل واحد منهما بالحياة الطبية على قدر صلاحية عمله وحسن استعداده في قبولها.
فإحياء النفس: بالحياة الطيبة أن تصير مزكاة عن صفاتها متحلية بأخلاق القلب الروحاني مطمئنة بذكر الله راجعة إلى ربها
{ { رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [الفجر: 28].
وإحياء القلب: وحياته الطيبة أن يكون متخلقاً بأخلاق الله، ويكون فانياً عن أنانيته باقياً بهويته حياً بحياته طيباً عن دنس الاثنينية ولوث الحدوث، فإن الله طيب عن هذا الاتصاف فلا يقبل إلا طيباً.
ثم اعلم أن صلاحية أعمال العباد إنما تكون على قدر صدقهم في المعاملات، وحسن استعدادهم في قبول الفيض الإلهي فيكون طيب حياتهم بإحياء الله إياهم بحسب ذلك؛ ولهذا اختلف تفسير المفسرين وتحقيق المحققين في قوله تعالى: { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [النحل: 97] على ما مرَّ ذكره، ثم قال تعالى: { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ } [النحل: 97] في الآخرة { أَجْرَهُم } [النحل: 97] أي: أجر كل طائفة منهم { بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النحل: 97] أي: بأوفر ما كانوا يطمعون أن يجازيهم الله على أعمالهم بيانه قوله:
{ { وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } [النساء: 40].
ثم أخبر عن الاستعاذة من الشيطان عند قراءة القرآن بقوله تعالى: { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } [النحل: 98] الخطاب مع الأمة وإن خص به النبي صلى الله عليه وسلم به؛ لأن الشيطان كان يفر من ظل عمر وهو أحد تابعيه، فكيف يقدر أن يدور حواليه سيما أسلم شيطانه على يده صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه قوله تعالى: { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [النحل: 99] يعني: سلطان نور الإيمان، والتوكل غالب على سلطان وسوسة الشيطان، فإن كان هذا حال الأمة مع الشيطان، فكيف يكون كمال النبوة معه؟! فثبت أن المراد بالخطاب الأمة، وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم بع لتعتبر الأمة وتتنبه أن مثل هذا النبي صلى الله عليه وسلم مهما يكون كمال النبوة معه فيثبت آلته مأموراً بالاستعاذة بالله من الشيطان، فتكون الأمة بها أولى وأحق. فأما تخصيص الاستعاذة بالله عند قراءة القرآن من الشيطان الردين لمعانٍ وفوائد:
فأولهما: لكي يتذكر القارئ واقعة الشيطان ويتفكر في أمره إنما صار شيطاناً رجيماً بعد أن كان ملكاً كريماً، لأنه فسق عن أمر ربه وخالفه وأبى أن يسجد لآدم
{ { وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ } [البقرة: 34] أي: فصار من الكافرين فينتبه بذلك عند قراءة القرآن ويصفي نيته قبل القراءة على أن يأتمر بما أمر الله في القرآن وينتهي عما نهاه عنه احترازاً عن المخالفة، فإن فيها الطرد واللعن والرجم والفسق والكفر وإنها مظنة للخلود في النار.
وثانيها: لأن العبد لا يخلو من حديث النفس وهواجسها ومن إلقاء الشيطان ووساوسه وقلبه لا بد يتشوش بذلك، فلا يجد حلاوة كلام الله فأمره بالاستعاذة تزكية للنفس عن هواجسها وتصفية للقلب عن وساوس الشيطان؛ ليتحلى بنور القرآن فإن التحلية تكون بعد التزكية والتصفية، فافهم جدّاً.
ثالثها: ولأن في كل كلمة من كلمات القرآن لله تعالى إشارات ومعانٍ وحقائق لا يفهمها إلا قلب مطهر عن تلوثات الهواجس والوساوس معطر بطيب أنفاس الحق، وذلك مودع في الاستعاذة بالله فأمر بها لحصول الفهم.
وفي قوله تعالى: { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [النحل: 99] إشارة إلى أن تصرف الشيطان وقدرته المخلوقة بالإغواء والإضلال على الإنسان إنما تنقطع بقدرة قوة الإيمان وقوة التوكل معاً ويكمل الإيمان والتوكل بأن يكون المؤمن زاهداً عن الدنيا راغباً في الآخرة متبتلاً إلى الله، فلا يبقى للشيطان عليه سلطان في إضلاله وإغوائه؛ ولكي يئول أمره إلى الوسوسة وفيها صلاح المؤمن فإن إبريز إخلاص قلبه عن غش صفات نفسه لا يتخلص إلا بنار وسوسة الشيطان؛ لأنه يطلع على بقايا صفات نفسه بما تكون الوسوسة من جنسه، فيزيد في الرياضة ومجاهدة النفس مع ملازمة الذكر فتنقض وتنمحي بقية صفات النفس، ويزداد نور الإيمان، وقوة التوكل وقربة الحق بقوله: