التفاسير

< >
عرض

وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ ذُو ٱلرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً
٥٨
وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً
٥٩
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَٰهُ لاۤ أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ ٱلْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً
٦٠
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ سَرَباً
٦١
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَٰهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَباً
٦٢
-الكهف

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

وبقوله: { وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ ذُو ٱلرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ } [الكهف: 58] يشير إلى أن رحمة الله في الدنيا تعم المؤمن والكافر؛ لأنه لا يؤاخذهم بما كسبوا { بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } [الكهف: 58] أي: ملجأ من العذاب وفيه إشارة إلى أن الرحمة تختص يوم القيامة بالمؤمن دون الكافر والعذاب يختص بالكافر دون المؤمن، وإن كان في الدنيا يعم المؤمن والكافر.
{ وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ } [الكهف: 59] أي: إنما أهلكنا أهل تلك القرى بعد أن كان من سنتنا أن تعم رحمتنا المؤمن والكافر في الدنيا؛ لأنهم ضموا مع كفرهم الظلم ومن سنتنا أن يمهل الظالم ولا يهمله كما قال صلى الله عليه وسلم:
"الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم" .
وقال تعالى: { { وَكَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعْضاً } [الأنعام: 129] وذلك لأن دعوة المظلومين المضطرين مؤثرة دعاءهم مستجاب، قال صلى الله عليه وسلم: "اتقوا دعوة المظلوم، فإنه ليس لها عند الله حجاب" قوله: { لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً } [الكهف: 59] أي: جعلنا موعد هلاك الكافر غلوه في الظلم، والظلم مرتعه وخيم.
ثم أخبر عن أهل الصحبة وآدابهم بالخدمة والحرمة بقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَٰهُ لاۤ أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ ٱلْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً } [الكهف: 60] اعلم أن في قوله: { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ } [الكهف: 60] إشارات:
منها: أن شرط المسافر أن يطلب الرفيق، ثم يأخذ الطريق.
ومنها: أن من شرط الرفيقين أن يكون أحدهما أميراً، والثاني مأموراً له ومتابعاً.
ومنها: أن يعلم الرفيق عزيمته ومقصده ويخبره عن مدة مكثه في سفره ليكون الرفيق واقفاً على أحواله، فإن كان موافقاً يرافقه في ذلك.
ومنها: أن من شرط الطالب الصادق أن تكون نيته في طلب شيخ يقتدي به وألا يبرح حتى يبلغ مقصوده ويظفر به، وإلا سيكون بقية عمره طالباً له فإن طلب الشيخ طلب الحق تعالى على الحقيقة.
وبقوله: { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ سَرَباً } [الكهف: 61] يشير إلى أن الطالب الصادق إذا قصد خدمة شيخ كامل يسلكه طريق الحق يلزمه مرافقة رفيق التوفيق ومعه حوت قلبه الميت بالشهوات النفسانية المملح بملح حب الدنيا وزينتها.
{ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } [الكهف: 61] المجمع هو ولاية الشيخ وبينهما أي: بين الطالب وبين الشيخ ولا يظفر المريد بصحبة الشيخ ما لم يصل إلى مجمع ولايته فافهم جدّاً، وعند مجمع الولاية عين الحياة الحقيقية فبأول قطرة من تلك العين تقع على حوت قلب المريد يحيا ويتخذ سبيله في البحر عن الولاية { سَرَباً } [الكهف: 61].
ومنها: أن الله يحول بين المرء وقلبه فنسي المريد قلبه حين فقده وينسى القلب المريد إذا وجد الشيخ.
وفي قوله: { فَلَمَّا جَاوَزَا } [الكهف: 62] إشارة إلى أن المريد في أثناء السلوك لو تطرقت إليه الملالة وأصابت قلبه الكلالة وسولت له نفسه التجاوز عن خدمة الشيخ وترك صحبته حتى يظن أنه لو سافر عن خدمته واشتغل بطاعة ربه وجاهد نفسه في طلب الحق تعالى لعله يصل مقصده ويحصل مقصوده بلا واسطة الشيخ والاقتداء به هيهات، فإنه ظن فاسد ومتاع كاسد، وأنه يضيع عمره ويتعب نفسه ويقع على سبل الرشاد، ويبعد عن طريق السداد إلى أن أدركته العناية الأزلية التي هي الكفاية الأبدية ورد إليه صدق الإرادة.
{ قَالَ لِفَتَٰهُ } [الكهف: 62] فيقول لرفيق التوفيق: { آتِنَا غَدَآءَنَا } [الكهف: 62] أي: صحبة الشيخ { لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا } [الكهف: 62] الذي جاوزنا عن صحبة الشيخ { نَصَباً } [الكهف: 62] أي: تعباً ولقيناً نصباً كثيراً بلا فائدة الوصول ونيل المقصود.