التفاسير

< >
عرض

قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّاً
٨
قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً
٩
قَالَ رَبِّ ٱجْعَل لِيۤ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً
١٠
فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً
١١
يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً
١٢
وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً
١٣
وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً
١٤
وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً
١٥
-مريم

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

وبقوله قال: { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّاً } [مريم: 8] يشير إلى أن أسباب حصول الولد منفية من الوالدين بالعقر والكبر وهي من السنة الإلهية، فإن من السنة أن يجعله يخلق الله الشيء من الشيء كقوله تعالى: { { وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } [الأعراف: 185] ومن القدرة أنه تعالى يخلق الشيء من لا شيء، فقوله: { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } [مريم: 8] أمن السنة أو من القدرة. فأجابه الله تعالى بقوله: { قَالَ كَذٰلِكَ } [مريم: 9] أي: الأمر لا يخلو من السنة أو القدرة؟
وفي قوله: { قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [مريم: 9] إشارة إلى أن كلا الأمرين عليَّ هين إن شئت أخلق لك من لا شيء بالقدرة، كما { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [مريم: 9] أي: خلقت روحك من قبل جسدك من لا شيء بأمر كن، ولهذا قال تعالى:
{ { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء: 85] وهو أول مقدور تعلقت القدرة به.
واعلم أن من قوله تعالى:
{ { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ } [مريم: 3] إلى تمام الآيات إشارة أخرى وهي: إن زكريا الروح نادى ربه { { نِدَآءً خَفِيّاً } [مريم: 3] سر الس. { { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي } } [مريم: 4] أعظم عظم الروحانية { { وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً } [مريم: 4] أي: شيب صفات البشرية { { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ } [مريم: 4] بموهبة الولد { { رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ } [مريم: 4-5] أي: صفات النفس أن تغلب وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِى { { وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي } [مريم: 5] أي: الجثة الجسدانية التي هي زوجة الروح { { عَاقِراً } [مريم: 5] أي: لا يلد إلا بموهبة من الله، { { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } [مريم: 5] وهو في الحقيقة القلب الذي هو معدن العلم اللدني، فإنه ولي الروح والنفس التي هي أعدى عدوة. { { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } [مريم: 6] أي: يتصف بصفة الروح وجميع الروحانيات. { { وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } [مريم: 6] أن تعطيه من تجلي صفات ربوبيتك ما يرضى به نظيره، قوله: { { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } } [الضحى: 5] فأجابه الله تعالى بقوله: { { يٰزَكَرِيَّآ } [مريم: 7] الروح { { إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ } [مريم: 7] وهو القلب { { ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ } [مريم: 7] بإحياء الله إياه بنوره كما قال تعالى: { { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً } [الأنعام: 122] فيه إشارة إلى أن من لم يحييه الله ولم يجعل له نوراً فهو ميت، قوله: { { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } [مريم: 7] أي: موصوفاً بصفة لا من الحيوانات ولا من الملائكة قبله وهي قبول فيض الألوهية بلا واسطة كما قال تعالى: "لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن" ألا وهي سر حمل الأمانة التي ضاق أهل السماوات والأرض عند حملها.
{ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } [مريم: 8] أي: قلب بهذه الصفة. { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ } [مريم: 8] أي: بطول زمان التعلق بالقالب. { عِتِيّاً } [مريم: 8] أي: يبساً وجفافاً من غليان صفات النفس. { قَالَ كَذٰلِكَ } [مريم: 9] أي: هكذا الأمر { قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [مريم: 9] لأني قادر على أن أحي الموتى، وأن أجعل من ازدواج الروح والقالب قلباً حيّاً يحيى بحياتي { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ } [مريم: 9] من لا شيء { وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [مريم: 9] لا روحانياً ولا جسمانياً { قَالَ رَبِّ ٱجْعَل لِيۤ آيَةً } [مريم: 10] أهتدي بها إلى كيفية عمل القالب العاقر بالقلب الحي الذي يحيى في ذلك { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ } [مريم: 10] أي: لا تخاطب غير الله ولا تلتفت إلى ما سواه { ثَلاَثَ لَيَالٍ } [مريم: 10] وبها يشير إلى: مراتب ما سوى الله وهي ثلاث مراتب: الجمادات والحيوانات والروحانيات، فإذا تقرب إلى الله بعدم الالتفات إلى ما سواه يتقرب إليه بموهبة الغلام الذي هو القلب الحي بنوره، فافهم جدّاً.
قوله: { سَوِيّاً } [مريم: 10] أي: متمكناً في هذا الحال من غير تلون { فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ } [مريم: 11] فخرج زكريا الروح من محراب هواه وطبعه على قوم صفات نفسه وقلبه وأنانيته. { فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [مريم: 11] أي: كونوا متوجهين إلى الله معرضين عمَّا سواه
{ { آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ } [طه: 130] { { وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ } [طه: 130]؛ بل بكرة الأزل وعشي الأبد.
ثم أخبر عن الخطاب ليحيى يأخذ الكتاب بقوله: { يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } [مريم: 12] يشير إلى يحيى القلب؛ أي: خذ كتاب الفيض الإلهي بقوة ربانية لا بقوة إنسانية؛ لأنه خلق الإنسان ضعيفاً وهو عن القوة بمعزل و
{ { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ } [الذاريات: 58]. { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً } [مريم: 12] أي: آتيناه العلم والحكمة وهو في صبايته، وخلقه إذ خلق الله الخلق في ظلمة، ثم رش عليهم من نوره، فالقلب موضع قبول الرشاش من الروح، والعلم والحكمة من نتائج ذلك الرشاش إلا أن الله تعالى خلق للقلب صورة وهي الصفة الصنوبرية، وقد خلقها من الذرة التي أخذها من ظهر آدم يوم الميثاق، وأنه تعالى جعل له روحاً من انصباب رشاش النور من الروح الإنساني وهذا يختص بقلوب الذين أنعم عليهم بإضفائه رشاش النور { { مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً } [النساء: 69] ولهذا الاختصاص صار يحيي القلب مخصوصاً بالحكمة.
وبقوله: { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا } [مريم: 13] أي: آتيناه رحمة من عندنا نظيره قوله في خضر
{ { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا } [الكهف: 65]، وبقوله: { وَزَكَاةً } [مريم: 13] أي: تزكيةً وتطهيراً منا عن الالتفات بغيرنا { وَكَانَ تَقِيّاً } [مريم: 13] أي: يتقي بنا عمَّا سوانا { وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ } [مريم: 14] أي: بوالد الروح وبوالدة القالب:
* فأمَّا بره بوالد الروح: تنويره بنور الفيض الإلهي إذ هو محل قبول الفيض كما قررنا؛ لأن الفيض الإلهي وإن كان نصيب الروح أولاً ولكن لا يمسكه للطافة الروح، بل يعبر عنه بالفيض ويقبله القلب ويمسكه؛ لأن فيه صفاء وكثافة؛ فبالصفاء يقبل الفيض وبالكثافة يمسكه، كما أن الشمس فيضها يقلبه الهوى لصفائها، ولكن لا يمسكه للطافة الهواء، فأمَّا المرآة فتقبل الشيء بصفائها ويمكّن لكثافتها، وهذا من أسرار حمل الأمانة التي حملها الإنسان، ولم يحملها الملائكة المقربون، فافهم جيداً.
* وأمَّا بره بوالدة القالب: فباستعمالها على وفق أوامر الشرع ونواهيه؛ لينجيها من عذاب النار ويدخلها الجنة { وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً } [مريم: 14] كالنفس الأمارة بالسوء { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ } [مريم: 15] يشير إلى أن القلب السليم المقبل المقبول في حراسة سلام الله وحفظه في كل حال من حالاته حالة ولادته؛ أي: ابتداء خلقه { وَيَوْمَ يَمُوتُ } [مريم: 15] أي: حين يموت باستعمال المعاصي { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } [مريم: 15] أي: حين يتوب إلى الله فيحييه الله حياة طيبة.
فأمَّا فائدة سلام الله حين يموت بالمعاصي في حق القلب، فبأن يكون في موته وإحيائه نوع ابتلاء يكون سبب تربية وترقية عن مقامه، وتنقية عن بعض الآفات والعيوب مثل: العجب والكبر والرياء والسمعة وغيرها.