التفاسير

< >
عرض

وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً
١٦
فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً
١٧
قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً
١٨
قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً
١٩
قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً
٢٠
قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً
٢١
-مريم

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن مريم وحالتها مع من في الأرض دل حاله بقوله: { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ } [مريم: 16] الخطاب مع قلم القدس؛ أي: الكتب في أم الكتاب الذي عنده مكتوب في الأول حالة { مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا } [مريم: 16] أي: انفردت من أهل الدنيا وتنحت { مَكَاناً شَرْقِياً } [مريم: 16] وهو القلب المشرق بنور ربه { فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً } [مريم: 17] من ذلك النور { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } [مريم: 17] وهو نور كلمة الله التي يعبر عنها بقوله: كن، وإنما سمي نور كلمته روحاً؛ لأنه به يحيي القلوب الميتة كما قال تعالى: { { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ } [الأنعام: 122] فتارة: يعبر الروح بالنور، وتارة: يعبر عن النور بالروح كقوله: { { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } [الشورى: 52] فأرسل الله إلى مريم نور كلمة كن { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } [مريم: 17] كما تمثل نور التوحيد بحروف: لا إله إلا الله؛ لانتفاع الخلق به.
والذي يدل على أن عيسى عليه السلام من نور الكلمة قوله تعالى:
{ { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } [النساء: 171] أي: نور من نور إلقائه، فلمَّا تمثلت الكلمة بالبشر أنكرتها مريم ولم تعرفها فاستعاذت بالله منه { قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } [مريم: 18] يعني: إنك إن كنت تقياً من أهل الدين فتعرف الرحمن ولا تقربني بإعاذتي إليه، وإن كنت شقياً فلا تعرف الرحمن فما تعوذتُ منك بالخلق، فأجابها وقال: { إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } [مريم: 19] طاهراً من لوث ظلمة النفسانية الإنسانية { قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [مريم: 20] أي: إذا لم يمسسني بشر قبل هذا { وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } [مريم: 20] ليمسسني بشر بعد هذا بالزواج وبالنكاح؛ لأني محررة محرَّم عليَّ الزوج { قَالَ كَذٰلِكَ } [مريم: 21] الذي تقولين، ولكن { قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [مريم: 21] أن أخلق ولداً من غير ماء منيِّ والد فإني أخلقه من نور كلمة كن كما قال تعالى: { { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [آل عمران: 59] { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } [مريم: 21] دلالة على قدرتي بأني قادر على أن أخلق ولداً من غير أب، كما أني خلقت آدم من غير أب وأم، وخلقت حواء من غير أم { وَرَحْمَةً مِّنَّا } [مريم: 21] أي: نرحم به من نشاء من عبادنا.
واعلم أن بين قوله: { وَرَحْمَةً مِّنَّا } [مريم: 21] وبين قوله:
{ { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } [الشورى: 8] فرق عظيم وهو: أنه تعالى إذا أدخل عبداً في رحمته يرحمه ويدخله الجنة، ومن جعله رحمة منه يجعله متصفاً بصفته.
ثم اعلم أن بين قوله: { وَرَحْمَةً مِّنَّا } [مريم: 21] وبين قوله في حق نبينا صلى الله عليه وسلم:
{ { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107] فرق عظيم وهو: أن في حق عيسى عليه السلام ذكر الرحمة مقيدة بحرف من، ومن: للتبعيض، فلهذا كان رحمة لمن آمن به، واتبع ما جاء به إلى أن بعث نبينا صلى الله عليه وسلم ثم انقطعت الرحمة من أمته بنسخ دينه، وفي حق نبينا صلى الله عليه وسلم ذكر الرحمة للعالمين مطلقاً؛ فلهذا لا تنقطع رحمته عن العالمين أبداً.
أمَّا في الدنيا فبأن لا ينسخ دينه، وأمَّا في الآخرة فبأن يكون الخلق يحتاجون إلى شفاعته حتى إبراهيم عليه السلام، فافهم جيداً.
وفي قوله تعالى: { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } [مريم: 21] إشارة إلى أن خلق عيسى عليه السلام على هذه الصفة كان في الأزل بمقتضى الحكمة القديمة مقدراً لإظهار القدرة على مثل هذا الخلق، فإنه يخلق ما يشاء بقدرته.