التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي
{ قَالَ } [مريم: 46] إبراهيم القلب { سَلاَمٌ عَلَيْكَ } [مريم: 47] أي: كن في سلامة من الله { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ } أي: سأطلب لك من الله مغفرة ورحمة يزيل بها عند هذا الإعراض عن الحق والتمادي في الباطل { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } [مريم: 47] منعماً مكرماً { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } [مريم: 48] أي: وما تعبدون { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ } [مريم: 48] من الدنيا والآخرة { وَأَدْعُو رَبِّي } [مريم: 48] ليرحمكم ويهديكم إلى حضرة جلاله { عَسَىۤ أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي } [مريم: 48] في نجاتك ورفع درجاتك { شَقِيّاً } [مريم: 48] لا يسمع دعائي فأشقى.
{ فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ } [مريم: 49] إبراهيم القلب آزر الروح وقومه من النفس والهوى { وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [مريم: 49] وأصنامهم من الدنيا وملاذها أنعم الله عليه بقوله: { وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ } [مريم: 49] أي: إسحاق السر { وَيَعْقُوبَ } [مريم: 49] أي: يعقوب الخفى وهو سر السر { وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً } [مريم: 49] أي: بلغناهم مقام الأنبياء ينبئهم الحق تعالى بالشواهد والكشوف عن علوم الحقائق والمعارف وهم ينبئون الخلق عن الحق وأسراره { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ } [مريم: 50] لا يتكلمون إلا عن صدق النيات وخلوص الطويات كلاماً { عَلِيّاً } [مريم: 50] عن الرعونات غير مشوب بالآفات.
ثم أخبر عن خلاص أهل الإخلاص بقوله تعالى: { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مُوسَىٰ } [مريم: 51] إلى قوله: { { هَارُونَ نَبِيّاً } [مريم: 53] وأن في الكتاب موسى { إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً } [مريم: 51] أي: إنه كان مخلصاً في إرادة شعيب عليه السلام وخدمته وموفياً بعهده متبعاً بدينه، وصار ببركة صحبته ومتابعته { رَسُولاً نَّبِيّاً } [مريم: 51].
ثم اعلم أن الإخلاص في العبودية مقام الأولياء، فلا يكون ولي إلا وهو ولي مخلص، ولا يكون كل مخلص نبياً، ولا يكون رسول إلا وهو نبي، ولا يكون كل نبي رسولاً.
* والمخلص بكسر اللام: من أخلص نفسه في العبودية بالتزكية عن أوصاف الإنسانية الحيوانية.
* والمخلَص بفتح اللام: من أخلصه الله بعد التزكية بالتحلية بصفات الروحانية الربانية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أخلص لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه" أي: من أخلص نفسه بالتزكية في الله، ولله ظهرت؛ أي: أظهر الله بالتحلية ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، وقال تعالى: "الإخلاص سر بيني وبين عبدي لا يبعد فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل"؛ أي: أنا الذي أتولى تحلية قلوب المخلصين بتجلي صفات جمالي وجلالي، وفي الحقيقة لا تكون العبودية مقبولة إلا من المخلصين كقوله: { { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [البينة: 5] ولإخلاص المخلصين مراتب:
* أدناها: أن تكون العبودية لله خالصاً؛ ولا تكون لغير الله فيها شركة.
وأوسطها: أن يكون العبد مخلصاً في بذل الوجود لله وفي الله.
وأعلى درجة المخلصين: أن يخلصهم الله من حبس وجودهم بأن يفنيهم عنهم ويبقيهم بجواره.