التفاسير

< >
عرض

فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً
٥٩
إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً
٦٠
جَنَّاتِ عَدْنٍ ٱلَّتِي وَعَدَ ٱلرَّحْمَـٰنُ عِبَادَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً
٦١
لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً
٦٢
تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً
٦٣
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً
٦٤
-مريم

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَٰوةَ } [مريم: 59] به يشير إلى: التخلف من هؤلاء السادة الذين لم يهتدوا بهداهم، ولم يقتدوا على آثارهم، ووكلوا إلى أنفسهم، فأعرضوا عن الحق تعالى، وتركوا ظاهر أمره وباطنه { وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ } [مريم: 59] أي: شهوات الدنيا ولذاتها على وفق هواهم وطبيعتهم النفسانية الحيوانية السبعية { فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً } [مريم: 59] وهو الدرك الأسفل من جهنم البشرية.
{ إِلاَّ مَن تَابَ } [مريم: 60] أي: من تداركته العناية الأزلية فيتوب بالصدق إلى الحضرة { وَآمَنَ } [مريم: 60] إيماناً حقيقيّاً نوَّر الله به قلبه { وَعَمِلَ صَالِحاً } [مريم: 60] أي: أعمالاً تصلح قلبه للجذبات التي بها يدخل الجنة كقوله: { فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ } [مريم: 60] الجنة جنة القرب { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } [مريم: 60] أي: على قدر صلاحية العمل وخلوصه يصلح القلب، وعلى قدر صلاحية القلب فيكون قابلاً للجذبات، وعلى قدر الجذبات تكون مقامات القربة بحيث لا ينقص منها شيء.
ثم أخبر عن جنات القربات بقوله تعالى:
{ { مُخْلِصاً لَّهُ } [الزمر: 11] في العبودية ولا يعبد الدنيا والنفس والهوى وهم الذين وصفهم الله تعالى بقوله: { { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } [الفرقان: 63] وعدهم بالغيب؛ أي: يغيبهم عن الوجود قبل التكوين، كما أخبر بقوله: { { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ } [التوبة: 111] أنه كان؛ أي: كان التقدير أن وعده ثانياً؛ أي: أتيا من العدم إلى الوجود، ثم وصف الجنة وأهلها بقوله: { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } [مريم: 62] يعني: لا تكون الجنة محلاً للغو ولا أهل الجنة هم اللغو { إِلاَّ سَلاَماً } [مريم: 62] أي: تكون الجنة مقر السلامة ولهذا سمي دار السلام وأهلها أهل السلامة ولا يسمعون إلا السلام من أنفسهم، ومن الملائكة ومن الله، لأن { { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } [يونس: 10] { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا } [مريم: 62] من رؤية الله تعالى { بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [مريم: 62] كما جاء في الخبر، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية.
ثم أخبر عن أهل الجنة بقوله: { تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا } [مريم: 63] أي: الذين لا يعبدون من دوننا { مَن كَانَ تَقِيّاً } [مريم: 63] يعني: جعلنا الجنة مسكناً ومأوى ومنزلاً لمن كان سيرته التقى عن المعاصي؛ لأنها أعدت للمتقين؛ يعني: من كان يتقي عن الدنيا وزخارفها وعن النفس وهواها وشهواتها، فالجنة له دار القرار وه من أهل الجنة لا يجاوزها لقوله تعالى:
{ { وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } [النازعات: 40] فإن الجنة هي المأوى، فأمَّا من كان يتقي عمَّا سوى الله فتكون الجنة ممره ولا مفره كقوله: { { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [القمر: 54-55] وهم أهل الله وخاصته الذين { { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران: 102] فافهم جيداً.
ثم أخبر عن تنزل أهل التمثل بقوله تعالى: { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } [مريم: 64] يشير إلى أن المقدورات كلها في علم الله وقدرته ينادون من سرادقات العزة إلى أهل العزة المتمنيين ما تهوى نفوسهم على وفق الطبيعة أن يا أهل الطبيعة أفيقوا، فما نتنزل من مكان الغيب إلى عالم الشهود إلا بأمر ربك الذي { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } [مريم: 64] من التقدير الأزلي { وَمَا خَلْفَنَا } [مريم: 64] من التدبير الأبدي { وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ } [مريم: 64] من الأزل إلى الأبد { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } [مريم: 64] أي: ناسياً لما قدر في الأزل تنزيله من المقدورات؛ ليتذكر بالناس ممن تنزيله فينزله، بل هو القادر العليم الحكيم الأزلي الأبدي ينزل ما يشاء متى يشاء لا معقب لحكمه ولا مقدم.