التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً
٨٥
وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً
٨٦
لاَّ يَمْلِكُونَ ٱلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً
٨٧
وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً
٨٨
لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً
٨٩
تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً
٩٠
أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً
٩١
وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً
٩٢
إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً
٩٣
لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً
٩٤
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَرْداً
٩٥
-مريم

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ } [مريم: 85] وهم الذين يتقون بالله عمّا سواه { إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } [مريم: 85] على متون جذبات العناية الحضرة الرحمانية، وإنما خصّ حشر وفد المتقين إلى حضرة الرحمانية؛ لأنها من صفات اللطف، ومن شأنها: الاتحاد والإنعام والفضل والكرم والتقريب والمواهب.
{ وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ } [مريم: 86] أهل الإنكار والإعراض { إِلَىٰ جَهَنَّمَ } [مريم: 86] البعد والنكرة { وِرْداً } [مريم: 86] بالقهر والخذلان { لاَّ يَمْلِكُونَ ٱلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } [مريم: 87] يعني: يوم الميثاق كما قال تعالى:
{ { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [يس: 60-61] ثم أوفى بعهده من الله بألاَّ تعبد ما سوى الحق تعالى من الدنيا والآخرة فإن من يكون مقيداً بشيء من الدنيا والآخرة يحتاج إلى شفيع يخلصه من ذلك القيد، كما قال صلى الله عليه وسلم: "الناس يحتاجون إلى شفاعتي حتى إبراهيم عليه السلام" .
ثم أخبر عن ناقضي العهود من أهل الجحود بقوله تعالى: { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً } [مريم: 88] إلى قوله: { فَرْداً } [مريم: 95]، { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً } [مريم: 88] يشير إلى: إن تجاسرهم وتعديهم في مثل هذا القول إنما كان من نتائج صفة الرحمانية إذ هم بها أقدموا على هذا القول؛ لأنه تعالى كان عالماً سرهم بأحوالهم أنهم خلقوا على هذه السجية ولا بدّ بأن يصدر منهم هذه المقالة، فلولا صفة الرحمانية لما سامحت الألوهية بإيجادهم، فبالرحمانية خلقوا، وبالرحمانية قد نطقوا بالرحمانية.
قال: { لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً } [مريم: 89-91] فإن الرحمانية أمهلتهم حتى قالوا ما قالوا إلا أن الألوهية كانت مقتضية للوحدانية في الوجود، كما أنه تعالى وحداني الذات { وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [مريم: 92] لأن الولد بضعة من الوالد، وما له بضعة فهو مركب، ولا بدّ للمركب من مؤلف، والمحتاج إلى المؤلف لا يصح أن يكون إلهاً.
ولقوله: { إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً } [مريم: 93] يشير إلى أن الرحمانية اقتضت إيجاد السماوات والأرض ومن فيهن، والصفاتية والألوهية كانت في الأزل مقتضية بألاَّ يكون لذاته تعالى شريك في الوجود حتى سبقت رحمته بالرحمانية غضبه وهو القهارية، فبالرحمانية خلق ما خلق، وبالرحمانية عبده من عبده وعرفه من عرفه، وبالرحمانية { لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ } [مريم: 94] في الأزل من العباد وهم معدودون. { وَعَدَّهُمْ عَدّاً } [مريم: 94] في الموجودين على وفق مشيئته من السعداء والأشقياء { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَرْداً } [مريم: 95] عن مشيئتهم، بل هو آت بهم على وفق مشيئته وإرادته القديمة الأزلية الأبدية على قانون حكمته البالغة.