التفاسير

< >
عرض

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِٱلْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ ٱلْجَحِيمِ
١١٩
وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلاَ ٱلنَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ ٱلَّذِي جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
١٢٠
ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ
١٢١
يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ
١٢٢
وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
١٢٣
وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ
١٢٤
-البقرة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن كمال عنايته فيه وحال مخالفيه بقوله تعالى: { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِٱلْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً } [البقرة: 119]، والإشارة فيها: { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِٱلْحَقِّ } شواهد دليله قوله أن الله هو الحق يعني: أرسلناك بنا مبشراً للمؤمنين وهذا الاختصاص خصصتك به من بين سائر الأنبياء؛ لأنهم كانوا مبشرين بالجنة ومنذرين بالنار، وأنت مبشر بالله ومنذر بالله دليل هذا القول قوله تعالى: { إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } [الأحزاب: 45-46]، الحقيقية بشر من أجابك ومن اتبعك بالوصول إلى الله، وأنك سراج تبين طريق الوصول إلى الله، وأنذر من لم يجيبك بالأنقطاع عن الله { وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ ٱلْجَحِيمِ } [البقرة: 119]، الذين زلت أقدامهم عن الصراط المستقيم.
ثم أخبر تعالى عن جهالة أهل الضلالة بقوله تعالى: { وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلاَ ٱلنَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } [البقرة: 120]، والإشارة فيها أن الله تعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم غاية جهالتهم وغلوهم في ضلالتهم أنهم يرجون رجوعه إلى ملتهم والصلاة إلى قبلتهم، وأشار إليه أن لا تبالي برضائهم إذا حصل لك رضانا، فأظهر عداوتهم وأعلى التبرؤ عنهم ولا تمهلهم { قُلْ إِنَّ } [البقرة: 120]، طريق { ٱلْهُدَىٰ } [البقرة: 120]، الذي هداني { هُدَى ٱللَّهِ } [البقرة: 120]، وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه { وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ } [البقرة: 120]، حرصاً على أن يتبعوك ويقبلوا دينك ويؤمنوا بك
{ وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف: 103] { بَعْدَ ٱلَّذِي جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ } [البقرة: 120]، بأنك لا تهدي من أحببت { مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ } [البقرة: 120]، في هدايتهم { وَلاَ نَصِيرٍ } [البقرة: 120]، على استتباعهم فكن بنا لنا متبرئاً عما سوانا، وقبلها إشارة أخرى أنه لن ترضى عن روح السالك يهود نفسه ولا نصارى هواه حتى تتبع ملتهم، يوافقهم في طلب الشهوات النفسانية وتتبع لذات الجسمانية، وتخلع عن الصفات الروحانية، قل إن هدى الله الذي دعاني إليه من التخلق بأخلاقه والتنور بأنواره هو الهدى، لا الذي تدعونني إليه من الصفات البهيمية والحيوانية والأخلاق الشيطانية، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من الإلهامات الربانية وواردات الألطاف الإلهية والمكاشفات الروحانية ما لك من الله من ولي في الخلاص عن الدركات السفلية، ولا نصير على نيل الدرجات العلية، وإياك أن تلحظ هذه الكرامات الواردات من تلك الحضرة بعين التقصير وبميل هواجس النفس إلى طرف تقصير فتعمى حينئذٍ عمى لا يصلح عنك بعده قادح ولا يفتح بابه عليك فاتح، فإن الأنفاس الرحمانية والنفحات الربانية لا تهب عن كل أرضي وسمائي ولا تمر على كل ماء وهواء إلا من قبل بمن الإيمان ولا تمر إلا على أرواح هي أدعية القرآن لا يدري ما مصحوبها إليك ومنشورها إلا عليك هي حوامل آلاء ونعماء ووفاء وورد وصفاء معها تُحفَ الربوبية وطرف الخصوصية ومحو العبودية واستيلاء الألوهية.
ثم أخبر عن أهل الإيمان الحقيقي بقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ } [البقرة: 121]، والإشارة آتينا هاهنا بمعنى أعطينا أي: الذي أعطيانهم الكتاب دراية وفهماً وقبولاً { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } [البقرة: 121]، يدل على هذا قوله تعالى:
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ } [البقرة: 87]، وقوله تعالى: { وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ } [البقرة: 253]، وقوله تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي } [الحجر: 87]، كلها بمعنى الإعطاء فالفرق بينهما بمعناه وغير معناه أن الذي بمعنى الإعطاء إضافة إلى نفسه فقال { وَآتَيْنَا } وبمعنى غيره ذكره بصيغة ما لم يسم فاعله فقال تعالى: { أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } [آل عمران: 19]، كقوله تعالى: { وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } [آل عمران: 19].
وقوله تعالى:
{ وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } [البينة: 4]، وأمثاله أي: يتدبرون ويتفكرون في معانيه وأسراره وحقائقه ولطائفه وظاهره فإن القرآن ظهراً وبطناً يدل على هذا قوله تعالى: { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } [البقرة: 121]، { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ } [النساء: 82]، { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } [البقرة: 121]، الإيمان الحقيقي ما يكون من إعطاء الله حقائق كتابه لقلوب عباده ليتلوه حق تلاوته ويؤمن به والدليل على هذا قوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } [المجادلة: 22]، { وَمن يَكْفُرْ } [البقرة: 121]، أي: ومن ينكر هذا المعنى ويجحد { بِهِ } [البقرة: 121]، ولا يعرف قدر معاني القرآن وحقائقها ويقنع بما ظهر عنده من لغة العرب والأحكام الظاهرة والقصص فقد مر حقائق ما أشار إليه الله عز وجل بقوله: { قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي } [الكهف: 109]، { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ } [البقرة: 121].
ثم أخبر تعالى عما أنعم به على اليهود وما عرفوا بقوله تعالى:
{ يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [البقرة: 40]، الآيتين الإشارة فيهما أن يتذكر النعمة المضافة إلى نفسه التي من خصائصها أن ينعم الله بها على عباده بما يفضلهم على العالمين { وَٱتَّقُواْ يَوْماً } [البقرة: 48]، فهاهنا الاتقاء من عذاب يوم { لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } [البقرة: 48]، من العذاب من نفس مثله { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَٰعَةٌ } [البقرة: 48] أي: فداء من نفس دون نفس ولا ينفعها شفاعة؛ لأنها لم تكن أهلاً للشفاعة { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } [البقرة: 48]، يدفع العذاب عنهم أبداً؛ لأنهم أبطلوا استعداد قبول فيض النصرة عن أنفسهم باتباع الهوى وترك التقوى.
ثم أخبر تعالى عن أهل التقوى وتارك الهوى بقوله تعالى: { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [البقرة: 124]، والإشارة فيها أن الولاء مظنة البلاء، فإن إبريز الولاء لا يبرز من معدن الإنسان الذي هو محل الابتلاء إلا بالتهاب نار الهوى، كما قيل البلاء للولاء كاللهب للذهب، فأصدقهم ولا أشدهم بلاء، فلما ابتلي الخليل عليه السلام بكلمات هي أحكام النبوة ولوازم الرسالة وموجبات الخلقة فوفى { فَأَتَمَّهُنَّ } [البقرة: 124].
أما أحكام النبوة: فما ابتلاه الله تعالى بالخصال العشرة في جسده كما ذكره في تفسير الآية، وأما لوازم الرسالة فمنها الصبر عن صدمات المكروهات وفقدان المألوفات، كما قال تعالى:
{ فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ } [الأحقاف: 35]، فصبر على كل مكروه وحادثة في ماله وولده ونفسه، وعن كل مألوف فقده في المال بالبذل وفي الولد بالذبح وفي النفس بالفداء.
وأما موجبات الخلة: فمنها التبرؤ عما سوى الخليل، ورفع الوسائط فيما بينه وبين الخليل، والتسليم والرضا تحت تصرفات الخليل فيما أراده له الخليل.
أما التبرؤ فقوله:
{ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [الأنعام: 78]، وأما العداوة فإنه قال: { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء: 77].
وأما رفع الوسائط فقوله حين عرضه جبريل عليه السلام في الهوا وهم يعذبونه في لجة الهلاك، وما الرضا ففي ذبح الولد قد أظهر الرضا، بما أمره وما راجع الحق تعالى في ولده كما راجعه نوح عليه السلام في ولده
{ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي } [هود: 45]، فأخبره تعالى كمال رضاه بقوله: { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [الصافات: 103] فلما خرج عن عهده إتمام كلمات الابتلاء فزيد له في الاصطفاء والاجتباء وأكرم بكرامة الأنبياء والاقتداء بقوله تعالى: { قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [البقرة: 124]، وقد قيل: وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان وفي قوله تعالى: { قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ } [البقرة: 124]، معنيان:
أحدهما: { قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [البقرة: 124]، تهدي الناس إلى طريق خلتي بأقوالك وأفعالك وأخلاقك على طريق هدايتك إليها بعد أن أسلموا الأحكام منا كما أسلمت وصبروا على بلائنا كما صبرت وأيقنوا بآياتنا كما أيقنت يدل على هذا المعنى قوله تعالى:
{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ } [السجدة: 24].
والثاني: جاعلك إماماً لمن يدعي محبتي ويريد خلتي أبداً ليقتدى بك فيما ابتليتك من موجبات الخلة ذكره بأداء حقوقها والخروج عن عهدة شرائطها كما أجرى منك والذي يدل على هذا المعنى قوله تعالى:
{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [آل عمران: 31].
ثم التمس الخليل عليه السلام من الله تعالى إمامة لأوليائه { قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي } [البقرة: 124]، فأخبر تعالى أنها ليست باستحقاق فما نسب أو باستحقاق سبب، وإنما هي باستعداد أزلي وقسم سرمدي { قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } [البقرة: 124] أي: غير المستعدين لقبول هذه الكرامة الله أعلم حيث يجعل رسالته من ذريتك، وغرهم إذا ليس هذا كنعيم الدنيا وسعة الأرزاق فيها فإنه لا ادخار لها عن أحد وإن كان كافراً كما كان في أهل ملكه لما دعوت، فقلت:
{ وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [البقرة: 126]، قال: ومن كفر فليس بالدنيا من الخطر ما يمنعها من الكفار ولكن عهدي لا ينال إلا الخواص من عبادي وأخص.