التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي
{ فَإِنْ آمَنُواْ } [البقرة: 137] يعني يهود الشيطان كما أسلم شيطان محمد صلى الله عليه وسلم ونصارى الهوى { بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ } [البقرة: 137]، فإن الشيطان إذا آمن يكون للسالك بمثابة جبريل عليه السلام فيعرج به إلى سدرة المنتهى، وهي أعلى المراتب الروحانية فلا يستبعد هذا من الشيطان فإنه جبريل الأصل فبالإباء والاستكبار صار شيطاناً رجما، فإن أسلم وترك الإباء وسجد لآدم الروح، فرجع إلى أصل خلقته، ونصارى الهوى إذا رجما، فإن آمنت تكون المحبة والشوق والعشق وتكون للسالك بمثابة الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم فيها يصل السالك إلى الحق ويعرج من سدرة المنتهى.
ولهذا قال بعض المشايخ: لولا الهوى ما سلك أحد طريقاً على الله تعالى { وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } [البقرة: 137]، يعني العداوة والمخالفة من شر الشيطان والهوى { فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ } [البقرة: 137]، يا سالك شرهما وشرك من هو من قبليهما فلا تلتفت إليهم { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ } [البقرة: 137]، بمقالاتكم { ٱلْعَلِيمُ } [البقرة: 137]، بحالاتكم ومعاملاتكم.
ثم أخبر أن معالجة المؤمن بصبغة الله لا يغيرها بقوله تعالى: { صِبْغَةَ ٱللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً } [البقرة: 138]، إلى قوله تعالى: { مُخْلِصُونَ } [البقرة: 139] والإشارة فيها أنه كما أن للكفر صبغة فللدين صبغة، وصبغة الدين هي صبغة الله فليس العبرة فيما يتكلفه الخلق، وإنما العبرة فيما يتصرفه الحق، فنصيب الأشباح من صبغة الله توفيق القيام بالأحكام وحظ القلوب تصديق المعارف بالعوارف في كفل الأرواح منها شهود الأنوار وكشوف الأسرار، وحق الأسرار منها فناء ليكون من صبغة الخلق بقاء التمكن في صبغة الله { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً } فإنها أزلية أبدية لا تغير فيها { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } [البقرة: 138]، يعني لصبغة أحكام أزلته منقادون بصبغة أنوار أبديته مكاشفون { قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ } [البقرة: 139]، وأنتم بحجب الخلقية وأستار أوصاف البشرية تحتجبون.
{ وَهُوَ رَبُّنَا } [البقرة: 139]، يربينا بحجر العناية بألبان الهداية { وَرَبُّكُمْ } [البقرة: 139]، يريبكم بألبان الخذلان في حجر الكفر والعصيان من إغواء الشيطان { وَلَنَآ أَعْمَالُنَا } [البقرة: 139]، مثمرة القبول والنجاة { وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } [البقرة: 139]، مثمرة الرد والهلاك لأنه { وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } [البقرة: 139]، لا غيره وأنتم مخلصون لغيره لا له، وما أمرنا نحن ولا أنتم إلا أن نعبد الله مخلصين لقوله تعالى: { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [البينة: 5].
ثم أخبر عن إقرارهم وكتمان شهادتهم بقوله تعالى: { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ } [البقرة: 140]، والإشارة فيها أن للنفس والشيطان تسويلات سولت لهم أنفسهم، فمنها: تخليهم أن إبراهيم الروح وأتباعه كانوا لركونهم إلى شيء من الدنيا وزينتها وشهوات النفس وهواها على ملة يهودية الشيطان ونصرانية النفس والهوى { قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ } [البقرة: 140]، بأحوال الروح وأتباعه { أَمِ ٱللَّهُ } [البقرة: 140]، الذي خلقهم وركب فيهم خاصية تنافي جبلة النفس والشيطان، وأما الروح وأتباعه فيتصرفون في الدنيا وزينتها والشهوات النفسانية ولذاتها عند بلوغهم حدود الرجال البالغين الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله بقوة ربانية وبصيرة روحانية لا بشهوة حيوانية واستيفاء لذلة نفسانية { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } [الأعراف: 160] ويكون لهم ذلك ممداً في العبودية ومجداً في طريق الربوبية.
كما قال تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ } [الأعراف: 32] على أن الله تعالى يتجلى ببعض صفاته على روح العبد فيظهر عكس أنوار الربوبية في مرآة القلب، فينعكس منها فيتنور بشعاعها هواء النفس ويقع على ضوء الشعاع على أرض الصدر فيقف الشيطان والنفس على كرامة الله الروح وأتباعه ويشاهدون آثار ألطاف الحق معهم، ولكي يكتمون ما شاهدوا ظلماً وعدواناً كقوله تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ ٱللَّهِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة: 140]، أيها الشيطان والنفس من الإنكار والتمرد وأيها الروح وأتباعه من التبرؤ عن الأغيار في العبودية والتقرب في العبودية والتقرب إلى حضرة الربوبية وأتباعه من التبرؤ عن الأغيار في العبودية والتقرب إلى حضرة الربوبية بالتجرد والتفرد.
ثم أخبر الفريقين عن سلوك الطريقين بقوله تعالى: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } [البقرة: 141]، والإشارة فيها أن الروح وأتباعه قد خلت ديار الجسمانيات، فإنهم قطعوا مفاوز النفوس والأشباح وعبروا بحار الملكوت والأرواح وبذلوا ليحصلوا وانفصلوا فأدركتهم جذبات العناية، وأوفت لهم الكيل بلا نهاية، فوجدوا ما طلبوا وسعدوا بما كسبوا فيها أنت أيها الشيطان والنفس وأتباعكم فأوقرتم ظهوركم بالإثم والعدوان، وأعظمتم الإساءات إلى أنفسكم بالمنع والحرمان فهلموا إلى ربكم بالمعذرة إن كانت لكم، وهاتوا حجتكم وإن كانت معكم، إلا فبعداً وسحقاً لكم، ولما طلبتم فتلك { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ } [البقرة: 141]، و{ وَلاَ تُسْأَلُونَ } [البقرة: 141]، كل فرقة منكم { عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [البقرة: 141]، فرقة أخرى كقوله تعالى: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [الأنعام: 164].
ثم أخبر عن إنكار المعرضين بالباطل وإعراض الجاحدين عن الحق بقوله تعالى: { سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا } [البقرة: 142]، والإشارة فيها أن من سفاهة الغيبة وجهالة أصحاب الحجة إذا خفيت عليهم أحوال أرباب القلوب، ومشاهداتهم في الغيوب وتصريفهم الحق من حال إلى حال، وتحريفهم من أفعال إلى أفعال يعترضون على حركاتهم وسكناتهم، ويطعنون في كل شيء من معاملاتهم؛ لأنهم ينظرون إليهم بعين الاستقباح وهمتهم الاستفضاح.
وقال تعالى: { قُل للَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ } [البقرة: 142]، فإن شرقوا فلله وإن غربوا فبالله، فلا توجه لقلوبهم إلا إلى وجه الله { يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [البقرة: 142]، من أوليائه وأحبائه { إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [البقرة: 142]، لقائه بآلائه ونعمائه.