التفاسير

< >
عرض

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
١٤٣
قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ
١٤٤
وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ
١٤٥
ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
١٤٦
ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ
١٤٧
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٤٨
-البقرة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن كمال فضله مع هذه الأمة وحكمة تحويل القبلة بقوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [البقرة: 143]، والإشارة فيها أن الله تعالى جعل بمحض العناية والكرم هذه الأمة وسطاً عند الأمم وجعل في هذه الأمة هذه الطائفة بهم يمطرون وبهم يرزقون وهم القطب، وعليهم المركز وبهم حفظ الله جميع الأقطار فمن قبلته قلوبهم فهو المقبول المقبل ومن ردته قلوبهم فهو المدبر المردود؛ لأنهم شهود الحق يشاهدون وينظرونه به ويبصرون ويطالعون ولهذا قال: { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [البقرة: 143]، فكما أن للرسول صلى الله عليه وسلم مقاماً أعلى من مقاماتهم وشهوداً فوق شهادتهم، فيكون شهيداً عليهم فكذلك لهم مقام أعلى من مقامات الناس فيكونون مشرفين على سرائرهم مطلعين على ما في ضمائرهم من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان فيشهدون عليهم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتم شهداء الله في أرضه" وقال: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران: 110]، فلا يخفى أن هذا من سيرة القوم وإن كانوا أغرب من عنقاء مغرب اليوم، ولما أراد الله أن يميز بين المحق الموافق وبين المقلد المنافق حكم في أمر القبلة بالتحويل ليكبر على من نظر بعين التفرقة حكم التبديل، كقوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ } [البقرة: 143]، ومن نظر بعين الحقيقة فيهديه الله للتسليم في العبودية فيستسلم لأحكام الربوبية، ثم قال تعالى: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [البقرة: 143] أي: من كان لله بجميع أوصافه كان الله له بجميع ألطافه: { إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [البقرة: 143]، من قرع باب رأفته فتح الله له أبواب رحمته.
ثم أخبر عن علة تحويل القبلة بقوله تعالى: { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ } [البقرة: 144]، والإشارة فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم من مكان تأدبه بآداب أدبه ربه بها لم يكن يظهر مع الله سؤاله، ولا يستدعي باللسان مأموله رعاية الآداب القربة؛ إذا أوحى الله تعالى إليه:
"من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته فوق مسألة السائلين" ومن كون نفقته على هذه الأمة كان يدخر دعوته المستجابة: "فدعا كل نبي دعوته وادخرت دعوتي شفاعة لأمتي" ، فلما قدر الله تعالى شرف الكعبة أن تكون قبلته وقبلة أمته، فانعكس مسطور الكتاب من الكعبة في مرآة قلب النبي صلى الله عليه وسلم فظهر فيه داعية استقبال القبلة ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، وكان تقلب قلبه إلى الله تعالى وتقلب وجهه إلى السماء لأنه كان قمر جبريل عليه السلام، فقال تعالى: { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } [البقرة: 144]، فالحبيب يترك سؤاله بطلب رضائه والرب يطلب رضاء رسوله بإنجاز مأمولة { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [البقرة: 144]، يعني ول قلبك رب المسجد الحرام بقلب الوجه إلى المسجد الحرام.
{ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ } [البقرة: 144]، أي: وجوه قلوبكم { شَطْرَهُ } [البقرة: 144] أي: إلى الله إن كنتم في البيوت أو في المساجد { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } [البقرة: 144]، من أهل العلوم الظاهرة { لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } [البقرة: 144]، علماً لا ينتفعون به ليكون حجة لهم بل حجة عليهم { وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } [البقرة: 144]، تأييداً للأولياء وتهويلاً للأعداء.
ثم أخبر عن ثبات الأعداء على قدم الكفر وثبات الأولياء على قدم الإيمان بقوله تعالى: { وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ } [البقرة: 145]، والإشارة فيها أن الحكم السابق الأزلي سبق للأولياء بالقبول والإيمان وللأعداء بالرد الخذلان وبينهما برزخ لا يبغيان، ولئن أتيت يا محمد أهل الخذلان بكل آية { مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ } [البقرة: 145]، ولا يزيدهم إلا الطغيان { وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } [البقرة: 145]، لأنك على بصيرة وهم عميان، { وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } [البقرة: 145]، وإن كانوا كلهم أهل الأهواء لأنهم مختلفون الأراء { وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [البقرة: 145]، معناه أن أتباع أهل الأهواء ممن سبقت لهم العناية الأزلية وهو عالم بها ظلم وعدوان، وهذا من شيم أرباب الخسران والضدان لا يجتمعان.
ثم أخبر عن معرفتهم النبي صلى الله عليه وسلم وجحود بعضهم بقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ } [البقرة: 146] أي: أعطيانهم الكتاب دراية وفهماً، { يَعْرِفُونَهُ } [البقرة: 146]، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم بنور فهم الكتاب بقوله تعالى:
{ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } [الشورى: 52]، { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [البقرة: 146]، بنور الحس ونور الباطن أقوى من المعرفة من النور الظاهر فمن كان مصباح قبله منوراً بنور الكتاب، والإيمان إذا نظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم والولي يعرفهم بسيماهم.
كما قال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم:
{ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ } [البقرة: 273]، كما كان حال عبد الله ابن سلام رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ونظرت إلى وجهه علمت أنه ليس بوجه كذاب { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ } [البقرة: 146]، المعرفة ما عرفوه حق معرفته وجحدوا به لقوله تعالى: { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } [الأنعام: 33]، ثم قال: فأنت بتحقيق الحق { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } [الأنعام: 114]، بعدما حق الحق { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } [الأنعام: 114]، في حق حقه ولا في حق نفسك تفهم هذه الدقيقة إن شاء الله تعالى.
ثم أخبر أن لكل أهل ملة قبلة بقوله تعالى: { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ } [البقرة: 148]، والإشارة فيها بمعنيين:
أحدهما: إن لكل شخص على حدة قبلة مناسبة لاستعداد جبل هو عليها موليها، هذا تحقيق قوله صلى الله عليه وسلم:
"اعلموا فكل ميسر لما خلق له" .
وثانيهما: إن لكل شيء من الإنسان قبلة هو موليها إن وكل إليه فقبلة البدن هي بالتلذذ بالحواس الخمس من المأكول والمشروب والمشموم والمسموع والمبصر والملموس والمركوب والمنكوح وأمثاله، وقبلة النفس هي الدنيا وزينتها ورفعتها والحرص في جمعها والتفاخر بها والتكبر لها وأشباه ذلك، وقبلة القلب هي الآخرة ونعيمها ودرجاتها وأنواع التمتعات بها، وقبلة الروح هي القربة والزلفة والشوق والمحبة وما هو من هذا القبيل، وقبلة السر التوحيد والمعرفة وكشف العلوم والمعاني والأسرار، وما يناسب ذلك ولو وكل واحد من هؤلاء إليه حتى أقبل البدن إلى قبلته وأقبلت النفس إلى قبلتها فكانا يزاحمان القلب والروح والسر في إقبالهم إلى قبلتيهم ويشغلانهم عن ذلك، وما صح لهم أن يقبلوا على قبلتهم بل يحولانهم إلى قبلتهما ويسبقا بهم، فلما وكلهم الله إليهم أمروا جميعاً أن يخرجوا من طباعهم وأهوائهم ويطيعوا ربهم في إقبالهم إلى القبلة بأمره فاستبقوا الخيرات.
{ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً } [البقرة: 148]، فجعل قبلة البدن الكعبة، وقبلة النفس الطاعة والعبودية وترك الهوى، وقبلة الهوى وقبلة القلب الصدق والإخلاص والإيمان والإيقان والإحسان، وقبلة الروح التسليم والرضاء والصبر على مر القضاء، وقبلة السر الفناء في الله والبقاء بالله والكينونة مع الله على ما أراد الله بلا إعراض ولا اعتراض وأشار بقوله: { فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ } على أنكم إذا شرعتم بشرط العبودية في الطاعة فيما لكم به قدرة واستطاعة من { أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً } بجذبات الألوهية إلى أينما لم تكونوا بالله { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة: 148]، في أشياء الإنسان: { قَدِيرٌ } [البقرة: 148]، أن يفنيه به، فافهم جدّاً.