التفاسير

< >
عرض

وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٧٩
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ
١٨٠
فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٨١
فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٨٢
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٨٣
أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
١٨٤
شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٨٥
-البقرة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن فوائد القصاص للعوام والخواص بقوله: { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 179]، والإشارة فيها أنها دالة على تحقيق ما ذكرنا أن في قصاصي سعادة الدارين، وإن من قتل بسيف الصدق عن تجلي صفات جلال الحق وأفنى من وجوده فله في القصاص حياة حقيقة؛ لأنه إذا تلف فيه فهو الخلف عنه وحياته به أتم له من بقائه بنفسه، ولهذا اختص بهذا أولي الألباب بقوله تعالى: { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي: تتقون عن شرك وجودكم ببذل قشر الروح الإنساني عند شهود الجلال الوحداني والجمال الصمداني؛ لتؤيدوا ببيت الروح الرباني لقوله تعالى: { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } [المجادلة: 22] وتكونوا أولي الألباب لكم حياة هم لب قشر هذه الحياة الإنسانية؛ لقوله تعالى: { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [النحل: 97]، وإذا كان الوارث عنكم الله والخلف عنكم الله، فبقاء الخلف خير لكم مما ورد عليه السلف تفهم إن شاء الله تعالى.
ثمأ خبر أهل المال بالوصية وأمر أهل الحال ببذل الوجود بالكلية بقوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً } [البقرة: 180]، والإشارة فيها أنه كتب على الأغيار الوصية بالمال، وكتب على الأولياء والوصية بالحال، والأغنياء يوصون في آخر أعمارهم بالثلاث والأولياء يخرجون من مبادئ أحوالهم عن الكل قوله تعالى: { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } إذا حضر أحدهم قلب مع الله ولموت نفسه بالإرادة عن الصفات الطبيعية الحيوانية، كما قال صلى الله عليه وسلم:
"موتوا قبل أن تموتوا" أو ترك كل خير وشر مكان مشربها من الدنيا والعقبى، فعليها أن توصي { ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ } [البقرة: 180]، وهما الروح العلوي والبدن السفلي، فإن النفس تولدت وحصلت بازدواجهما، { وَٱلأَقْرَبِينَ } [البقرة: 180]، وهم: القلب والسر وباقي المتولدات البشرية بتركه وبترك كل مشروب يظهر لهم من المشارب الروحانية الباقية والمشارب الجسمانية الفانينة، { بِٱلْمَعْرُوفِ } [البقرة: 180]؛ أي: بالاعتدال من غير إسراف يقضي إلى إتلاف محترز في الأحوال من الركون إلى شهوة من الشهوات، وفي الأعمال متجنباً من الرسوم والعادات، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت لرفع العادات وترك الشهوات" ، وقال صلى الله عليه وسلم: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ، ومن مكارم الأخلاق أن يجعل المشارب مشرباً واحداً، والمذاهب مذهباً واحداً، كما قيل:

وكلٌّ لهُ سؤالٌ ودينٌ ومذهبُ ووصلكم مسئولي وديني هواكمُ
وأنتمُ من الدنيا مرادي وهممي مناي مناكم واختيار رضاكمُ

وقوله تعالى: { حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 180]؛ يعني: ما ذكرنا من الصوية بجملتها حق واجب على متقي الشرك الخفي، ولهذا قال تعالى على المتقين وما قال على المسلمين والمؤمنين؛ لأنهم أهل الظواهر، والمتقون هم أهل البواطن، كما قال صلى الله عليه وسلم: "التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره" .
واعلم أن القرآن أنزل لأهل البواطن كما أنزل لأهل الظواهر، والأحكام تحتمل النسخ كما نسخ هذه الآية في الوصية الظاهرة، وباطنة الحكم والحقائق فهي لا تحتمل النسخ أبداً؛ ولهذا قال أهل المعاني: بأن ليس من القرآن شيء منسوخ؛ يعني: وإن دخل النسخ في أحكام ظاهره فلا يدخل في حكم باطنه فيكون أبداً معمولاً بالمواعظ والحكم والأسرار والحقائق، { حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 241]؛ لأنه مخصوص بهداية المتقين كقوله تعالى: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2]، فحكم الوصية في حقكم غير منسوخ أبداً كقول بعضهم:

ما دمُ حياً فإن أمت يحبك عظمٌ في الترابِ رميمُ

وقال بعضهم في الوصية: له الثلثان من قلبي، وثلثا ثلاثة الباقي، وثلاث ثلاث ما بقي، وثلثا الثلث للراقي، فجاز الساجد الراقي بثلث ثلثه الباقي، فيبقى السهم ست تجزي بين عشاقي.
ثم أخبر عن وبال التبديل لأهل التحصين بقوله تعالى: { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ } [البقرة: 181]، الآيتين والإشارة فيهما أن من غير من الروح والقلب والسر الوصية الصادرة من نفسه الميتة عن أوصافها الذميمة الحيوانية عند شواهد الغيب وإزالة شوائب الريب إليه بترك المشارب الجزئية من المطالب الغيرية، { بَعْدَ مَا سَمِعَهُ } بسمع القبول في ترك الفضول، وشم رائحة ورد المحبة بمشام الرغبة، وذاق زلال الوصال من مشارب الأعمال، فهبت عواطف الجلال بتغير الأحوال العزة والملك الكبير المتعال، فحجب بعد ما كوشف ورد ما خوطب، والبعد بعد ما كان قريباً، وعاد الإسلام غريباً كما بدأ غريباً، { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ } [البقرة: 181] أي: جرمه وجنايته، { عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } [البقرة: 181]؛ أي: على القلب والروح والسر، أو على الكل الذي يبدلون الوصية ترك مشاربهم الطبيعية الإنسانية، { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ } [البقرة: 181] لهذا الوصية المرضية، { عَلِيمٌ } [البقرة: 181] بما في النيات والطويات من الرجوع إلى مشارب الطبيعة بعد تنسم روائح نفحات الحقيقة، وإنما اختصت النفس بهذه الوصية؛ لمعنيين:
أحدهما: لأن الوصية مخصوصة بمن حضره الموت مخصوص بالنفس عند حضور القلب والروح والسر مع الله؛ لأن حياة النفس في موتهم، وموتها في حياتهم، وحياتهم بالحضور مع الله، وموتهم في بعدهم من الله؛ ولهذا قال الله تعالى في حق أهل البعد:
{ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ } [النمل: 80]، وقال في حق أهل الحضور: { لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً } [يس: 70]، وحضور كل واحد منهم من الله يوجب حياته، والوصية مخصوصة بمن حضره الموت وهي: النفس على التحقيق.
والثاني: لأن النفس لمَّا انعكست عليها أنوار الحضور من مرآة القلب ظهرت لهذا خساسة صفاتها الذميمة الحيوانية الفانية، وذاقت حلاوة ونفاسه الصفات الحميدة الروحانية الباقية فاطمأنت إليها ورضيت بها، فترجع إلى ربها وتموت عن صفاتها، وتركت كل ما كان خيراً عندها؛ لأنها علمت بالحقيقة
{ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ } [النحل: 96]، فكتب عليها بقلم العلم الحقيقي الوصية على الإنسان عند الموت عن صفاته للوالدين والأقربين من الروح والبدن والقلب والسر يتعظوا بها ويقبلوا وصيتها كقوله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالموت واعظاً" ؛ لكن القلب والروح والسر كلهم من العالم الروحاني، وصفاتهم روحانية حميدة باقية، فترك مشاربها والخروج عنها صعب جداً.
وقوله تعالى: { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً } [البقرة: 182]؛ أي: تفرس من هذه الوصية على الموصى له، { جَنَفاً } في ترك مشاربه بأن يبالغ في المجاهدات لنيل المشاهدات، أو تجاوزاً عن حد الشرع في رفع الطبع، { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ } [البقرة: 182]؛ يعني الروح والبدن والقلب والسر والوصية إلى العدل والحق؛ ولكن بنظر صاحب ولاية كامل؛ ليطرق سلوك طريق الحق؛ ليخرجهم من ظلمات الطبع، وهذا أحد أسرار بعثة الأنبياء عليهم السلام، فافهم جدّاً.
{ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة: 183]، أي: فلا حرج على المصلح بينهم فيما يواسيهم ويداري معهم ويرفق بهم ببعض الرخص، فإن الحمل على الصدق المحض لا يثبت له إلا قليل من المجذوبين، { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ } [البقرة: 182] أي: يستر ما به يغان على قلب السالك عند فترة أو وقفة أو رخصة في رجوعه إلى الله بالاستغفار، { رَّحِيمٌ } [البقرة: 182]؛ أي: يلطف ويعطف به بالرحمة كقوله صلى الله عليه وسلم:
"إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة" .
ثم أخبر عن أحد أركان الوصية في الإمساك عن المشارب القلبية والقالبية بقوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ } [البقرة: 183]، والإشارة فيها أن الصوم كما يكون للظاهر يكون للباطن، وباطن الخطاب يشير إلى صوم القلب والروح والسر، { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } شهود أنواع الحضور مع الله كما سبق ذكرهم، فصوم القلب: صومه عن مشارب المعقولات، وصوم الروح: عن ملاحظة الروحانية، وصوم السر: صومه عن شهود غير الله، فمن أمسك عن المفطرات فنهاية صومه إذا هجم الليل، ومن أمسك عن الأغيار فنهاية صومه أن يشهد الحق.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم:
"صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته" ، عند أهل التحقيق الهاء عائدة إلى الحق تعالى، فينبغي أن يكون صوم العبد ظاهراً وباطناً لرؤية الحق وإفطاره بالرؤية كما قال قائلهم:

لقد صامَ طرفي عن شهودِ سواكم وحق له لما اعتراهُ نواكم
يعيد قوم حين يبدوا هلالهم ويبدو هلالُ الصب حين يراكمُ

قوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ } [البقرة: 183]؛ أي: على كل عضو في الظاهر وعلى كل صفة في الباطن، فصوم اللسان: من الكذب والفحش والغيبة، وصوم العين: على النظر في الغفلة والريبة، وصوم السمع: عن استماع المناهي والملاهي، وعلى هذا فقس الباقي، وصوم النفس: عن التمني والحرص والشهوات، وصوم القلب: عن حب الدنيا وزخارفها، وصوم الروح: عن نعيم الآخرة ولذاتها، وصوم السر: عن رؤية وجود غير الله تعالى وإثباته، { كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [البقرة: 183]، هي إشارة إلى أن أجزاء وجود الإنسان من الجسمانية والروحانية قبل التركيب صارت صائمة عن المشارب كلها، فلما تعلق الروح بالقالب صارت أجزاء القالب مستدعية للحظوظ الحيوانية والروحانية بقوة إمداد الروح، وصار الروح بقوة حواس القالب متمتعاً من المشارب الروحانية والحيوانية، فالآن كتب عليكم الصيام وهم مركبون، { كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } من المفردات، { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 183]، من مشارب المركبات، وتصومون فيها مع حصول استعداد الشرب؛ لتفطروا من مشارب يشرب بها عباد الله { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [الإنسان: 21] فيطهركم من طهورية هذا الشراب عن دنس استدعاء الحظوظ، طلعت شمس استدعاء حقوق اللقاء من مطلع الالتقاء فحينئذ يتحقق إنجاز ما وعد سيد الأنبياء بقوله صلى الله عليه وسلم: "للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه" .
ثم أخبر عن كمال لطفه مع العباد بتقليل الأعداد في قوله تعالى: { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } [البقرة: 184]، إلى قوله تعالى: { وَٱلْفُرْقَانِ } [البقرة: 185].
الإشارة فيها: أن صومكم في أيام قلائل معدودة متناهية، وثمرات صومكم وفوائدها من أيام غير معدودة ولا متناهية، فلا يهولنكم سماع ذكره وهذا كقوله تعالى:
{ وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } [الحج: 78].
ثم قال تعالى: { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً } [البقرة: 184]؛ أي: وقع له فترة من السلوط لمرض عارض قلبه من غلبات صفات النفس وداعي البشرية وكسل الطبيعة فانحرف خارج القلب، { أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } [البقرة: 184]، أو وقع له أثناء السلوك من العجز عن القيام بأعباء أحكام الحقيقة، فليمهل حتى تشتد إرادته وتقوى جرأته وتدركه العناية ويعالج سقمه بمعاجين الألطاف، ويزيل مرضه بملينات الألطاف، { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة: 184]؛ يعني: في أيام سلامة القلب وزوال المرض فيستدرك ما فاته بالأخذ بالتأويل وما رخص له في التسهيل كما قال تعالى لأهل الرخص:
{ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16].
وقال تعالى لأهل العزائم:
{ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران: 102] وذلك سنة من الله في التسهيل لأهل البداية، ثم استيفاء ذلك عنهم واجب في آخر الحالة، { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } بالبقرة: 184]؛ أي: على كل من كان له قوة في صدق الطلب وهمة علية في المقصد واجبة لما أفطروا، وإن إمساك الهمة عن المشارب بالالتفات إلى بعض المطالب فرجع تسيهلات الشريعة عن شارب الحقيقة، { طَعَامُ مِسْكِينٍ } [البقرة: 184]، إشار إلى أن كل مشرب ألطاف الحق؛ يعني: المسكين من يكون مشربه غير ما عند الله، وفيه إشارة إلى أن كفارته ما يكون { طَعَامُ مِسْكِينٍ } فيعطيه المساكين بالخروج عما سوى الله، ويواصل الصوم ولا يفطر إلا على طعام مواهب الحق وشرب مشاربه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يواصل ويقول: "إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" ، { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً } [البقرة: 184]؛ أي: فمن زاد في الغذاء؛ يعني: كلما فطر عن مشرب فلا بد سقي من مشرب فيغذي ذلك المشرب أيضاً، { فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } [البقرة: 184]، أن يصير مشربه ترك المشارب كلها ودوام الصوم كقوله تعالى: { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة: 184]؛ يعني: { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 184]، أن فوق كل مشرب آخر إلى ما لا يتناهى؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "من استوى يوماه فهو مغبون" وفيه إشارة أخرى وهي: { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ } [البقرة: 184-185]، شهر النصب على قراءة من قرأها؛ يعني: وإن تصوموا على المشارب كلها { خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ما اختص به، { أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } [البقرة: 185] فمعناه: وأن من يكون حاله كحال رمضان في إدامة الصوم فينزل فيه حقائق القرآن؛ ليكون على مأدبة الله لا على معنى أن يأكل من المأدبة فإنه دائم الصوم، ولكن المأدبة تأكله تفنيه عن خلق الخلقية وتبقيه بخلق الخالقية، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم: 4] والعظيم هو الله، فافهم جدّاً.
ولما سئلت عائشة رضي الله عنها ما كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت:
"كان خلقه القرآن" فهنا ينقطع سير السالك فيكون السير بحقائق القرآ، فيه يهديه من خلق إلى خلق، كما قال تعالى: { هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ } [البقرة: 185].
ثم أخبر عن وجوب الصوم عند شهود الشهر التمام بقوله تعالى: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [البقرة: 185]، الإشارة فيها أنه ذكر بعد قوله:
{ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة: 184] إن تدومون على أمساك النهمة عن المشارب كلها إن كنتم تعرفون قدر شهر رمضان؛ وهو: عبارة عن دوام الصوم الحقيقي، { ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } كما مر ذكره، قال تعالى: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ } [البقرة: 185]؛ أي: من أدرك مؤنة دوام الإمساك عن المشارب بالكلية، { فَلْيَصُمْهُ }؛ أي: فله دوام على ملازمة الإمساك لقوله صلى الله عليه وسلم: لحارثة رضي الله عنه "أصبت فالزم" ، وقال أبو يزيد -رحمه الله -: ناداني ربي، وقال: اترك نفسك ولازم بدك، فإن رمضان يرمض ذنوب قوم، فشهود رمضان الحقيقي يحرق وجود قوم، فشتان بين من يحرق ذنوبه رحمته وبين من يحرق ورسوم حقيقته؛ وفيه معنى آخر وهو أن من كان منكم شاهداً الشهر وحاضره لا غائب الشهر حاضره فليصمه، { وَمَن كَانَ مَرِيضاً } [البقرة: 185] بمرض الفترة والغفلات { أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } [البقرة: 185] من وقفات السلوك السالك، { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة: 185]، الرغبات وصحة صدق النيات والرجوع إلى مقام القربات بتصرف الجذبات فيقضي فيها ما فاته ويحيي فيها ما أماته.
وقوله تعالى: { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } [البقرة: 185]،
{ فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً } [الشرح: 5] فيريد بكم اليسر الذي هو مع العسر، فلا تنظر في امتثال الأوامر إلى العسر ولكن انظر إلى اليسر الذي مع العسر، فإن العاقل الذي ينظر مرارة الشراب فيتركه ولكن ينظر إلى حلاوة الصحة ولا يبالي بمرارة الشراب فيشربه بقوة الهمة؛ وفيه معنى آخر أنه { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ } إذا هداكم للإيمان وبعث إليكم الرسول؛ لتؤمنوا به وأنزل معه القرآن وخاطبكم بقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ } [البقرة: 183]، ثم وفقكم لإعطاء حق ما وجب عليكم واتقاء مخالفة ما كتب عليكم والتصديق بالحسنى التي وعدكم بها، اليسرى وهي ما أراد به من اليسر لقوله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } [الليل: 5-7]، ومن يرد الله به العسر لم يوفقه لإعطاء حق الإيمان؛ ليبخل به ولاتقاء مخالفة ما وجب عليه ليستغني ولا للتصديق؛ ليكذب بالحسنى؛ لكي ييسره للعسرى؛ وهي ما أراد به من العسر كقوله تعالى: { وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ } [الليل: 8-10]، ومن أمارات أنه أراد بعبده اليسر أنه أقامه لطلب اليسر، ولو لم يرد به اليسر لما جعله طالباً لليسر هارباً من العسر، قال قائلهم:

لو لم ترد نيلَ ما أرجو وأطلبهُ من فيضِ جودك ما علمتني الطَّلبا

حقق رجاء أهل الوفاء للعطاء وأقلق قلوب العشاق ببلوغ اليسر، حيث قال تعالى: { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ } [البقرة: 185]، وأزال عن صدور العابدين الشجون، وأزاح عن قلوب المحبين مجوزات الظنون، حيث قال: { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } [البقرة: 185]، قوله تعالى: { وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ } [البقرة: 185] أنواع الغاية بجذبات { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ } ولتتموا عدة أيام الطلب بمبليات، { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ }، { وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ } [البقرة: 185]؛ أي: ولتعظموا الله عن الانفصال والاتصال، { عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ } [البقرة: 185] إلى عالم الوصال بتجلي صفات الجمال، { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة: 185] أي: ولكي تشكروا نعمة الوصال بأداء حق التنزيه لذات ذي الجلال في تحقيق { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الأنعام: 91] أهل الكمال.