ثم أخبر عن قتال أهل المال وجدال أهل الضلال بقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىۤ } [البقرة: 246] والإشارة فيها أن القوم لما أظهروا خلاف ما أضمروا وزعموا غير ما كتموا أعرض نقد دعواهم على محك معناهم فما أفلحوا عند الامتحان إذ عجزوا عن البرهان وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان: { إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ } [البقرة: 246]؛ يعني: أنكم هو شمول إذا ادعيتهم دعوى عريضاً تصريحاً لا تعريضاً أن تقاتل في سبيل الله وإن القتال في سبيل الله من شأن الأنبياء وخواص الأولياء وليس من منيع أهل الطباع والهوى فأنا أتوقع إن كتب عليكم القتال أن تقاتلوا فيما ادعيتم كالرجال وتكون أفعالكم دون أقوالكم وأعمالكم { قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا } [البقرة: 246]، فكان أول مقالهم دعوى إخلاص لله في قتالهم فظهر عن المقصود وأخرجا لهم معنى الذب عن أولادهم وأموالهم، فهذا حال أكثر مدعي الإسلام والإيمان يزعمون يصلي ويصوم ويحج ويزكي ويعمل ويصنع لله وفي الله، فإذا امتحنوا بصدق الجنان وعرضوا النقود على الميزان فيكشف الغطاء ويظهر الخفاء ففي كفتي الميزان يرى ما كان لله، وما كان للهوى فيقال هذا أثر الحياة، فإن الجنة هي المأوى، وهذا لمن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأموى { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ } [البقرة: 246]، تبين الأبطال من البطال واسودت وجوه أصحاب الدعاوي، وابيضت وجوه أرباب المعاني: { تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [البقرة: 246]، ولاشك أن أهل الحق في كل زمان وإن كان أعز من العتقاء وأعوز من الكيمياء، قال بعضهم:
تُعَيِّرُنا أَنا قَليلٌ عَديدُنا فَقُلتُ لَها إِنَّ الكِرامَ قَليلُ
وَما ضَرَّنا أَنّا قَليلٌ وَجارُنا عَزيرٌ وَجارُ الأَكثَرينَ ذَليلُ
وإنما لم ينل المدعون مقصدوهم؛ لأنه لم يخلص بالحق لله مقصودهم، ولو أنهم قالوا ما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أمرنا ربنا وأوجب القتال علينا وإنه سيدنا ومولانا، فالله صدق دعواهم وأعطى مناهم وأكرم مثواهم، كما قال قوم من السعداء في أثناء التضرع والبكاء بالنفس الصعداء: { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلصَّالِحِينَ } [المائدة: 84]، لا جرم { فَأَثَابَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [المائدة: 85]، { كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 29] على قدر ظلمهم { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ } [الجمعة: 7].
ثم أخبر عن إجابة سؤالهم وبعد الإجابة بين مع النبي أحوالهم وأخلاقهم وأفعالهم بقوله تعالى: { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً } [البقرة: 247]، والإشارة فيها أن الحكمة الإلهية الأزلية جلت وتجلت جلباب تعاليها عن أن تكون العقول القاصرة الخلقية مدركة لكل معنى من معانيها وأنه ليس العجب في أن العقول البشرية المشوبة بظلمة الهوى والغضب كبني إسرائيل حارت عند سماع قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً } حتى { قَالُواْ } [القلم: 29]، متحيرين { أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِٱلْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ ٱلْمَالِ } [البقرة: 247]، ولكن العجب أن العقول الكاملة المؤيدة بالأنوار القدسية للملائكة المقربين طارت عند استماع خطابه: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة: 30]، حتى قالوا مدهوشين: { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [البقرة: 30]، فالله تعالى أخبرهم عن قصور عقولهم في إدراك حقائق حكمه وقال: { قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 30]، ثم اصطفى آدم عليه السلام على الملائكة بالعلم والجسم، وقال تعالى: { وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } [البقرة: 31]، وقال تعالى: { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ص: 71-72]، وكذلك اصطفى طالوت على بني إسرائيل، قال: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي ٱلْعِلْمِ وَٱلْجِسْمِ وَٱللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ } [البقرة: 247]، أعطى ملك بني إسرائيل لطالوت كما أعطى ملك الخلافة لآدم وإنما حرم بنو إسرائيل عن الملك؛ لأنهم كانوا معجبين بأنفسهم متكبرين على طالوت ناظرين إليه بنظر الحقارة ومن عجبهم قالوا: { نَحْنُ أَحَقُّ بِٱلْمُلْكِ مِنْهُ } [البقرة: 247]، ومن تكبرهم عليه قالوا: { أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلْمُلْكُ عَلَيْنَا } [البقرة: 247] ومن تحقيرهم إياه قالوا: { وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ ٱلْمَالِ } [البقرة: 247] فلما تكبروا وضعهم الله تعالى وحرموا من الملك ولما عرض صمويل على طالوت تواضع لله تعالى، وقال: كيف أستحق الملك وسبطي أدنى أسباط بني إسرائيل، وبيتي أدنى بيوت بني إسرائيل؟ فرفعه الله تعالى وأعطاه الملك وقال: { وَٱللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ } كذلك الملائكة إنما حرموا من الخلافة لأنهم كانوا محتجين بحجب الأنانية والتحتية متفوقين على آدم ناظرين إليه بالحقارة حتى قالوا: { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [البقرة: 30]، وقد أضمروا في هذا القول: ونحن أحق بالخلاف منه وإن لم يظهروا فتفرقوا عليه في حضرته وقالوا: { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ } [البقرة: 30]، فلما تفوقوا عليه وترفعوا أمرهم بسجوده، ولما جاء جبريل عليه السلام ليقبضه من أديم الأرض وقال له: أحب ربك، فقال: إيش يريد مني؟ عرض عليه الخلافة وقال: يريد أن يجعلك خليفة فتواضع لله تعالى وقال: ما للتراب ورب الأرباب وأقسم على جبريل برب العزة ألا يقبضه وأن يستعفي له من الحضرة، فالله تعالى أكرمه بسجود الملائكة وحمل أعباء الأمانة وأعطاه ملك الخلافة ورفعه على أكناف الملائكة إلى دار المقامة والكرامة وقال: { وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة: 247]؛ أي: واسع الرحمة حتى رحمته وسعت كل شيء، ولكنه عليم بمستحقي خلافته وملكه.
ثم أخبر عن آيات استحقاق ملكية طالوت في إتيانه التابوت بقوله تعالى: { وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [البقرة: 248]، والإشارة فيها أن آية تلك الخلافة للعبد أن يظفر بتابوت قلبه فيه سكينة من ربه وهي الطمأنينة بالإيمان والأنس مع الله كقوله تعالى: { وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ } [الرعد: 28]، وقوله تعالى: { وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [البقرة: 260]؛ أي: بازدياد الإيمان مع الإيمان وهي السكينة لقوله تعالى: { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوۤاْ إِيمَٰناً مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ } [الفتح: 4]، { وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ } [البقرة: 248]، وهو عصا الذكر كلمة لا إله إلا الله وهي كلمة التقوى وهي الثعبان الذي إذا قرعت فإنها تلقف سحر عظيم السحرة صفات فرعون النفس، فإن الله جعل سكينة بني إسرائيل تعينهم في تابوت السماء وهو عصا موسى، فقد جعل سكينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته عصا الذكر وكلمته في تابوت القلوب.
كما قال تعالى: { فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الفتح: 26]، وألزمهم كلمة التقوى ثم شرفهم بتخصيص هذه الكرامة على سائر الأمم وقال تعالى: { وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } [الفتح: 26] وإن تابوتهم الذي كانت سكينتهم فيه تتداوله الأيدي من الأعداء وغيرهم فمرة كان يدنس وتارة كان يغلب عليه فيحمل ويوضع على الصنم أما تابوت قلوب المؤمنين خالٍ بين أربابها وبينها ولم يستودعها ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً وأودعها بين أصبعي جلاله وجماله كما قال صلى الله عليه وسلم: "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن" فشتان بين أمة سكينتهم فيما للأعداء عليهم تسلط وبين أمة سكينتهم فيما ليس للأولياء ولا للأنبياء عليه تسلط وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" ، وإن كان في تاوبتهم رضاض ألواح كتبت عليه التوراة فالله تعالى كتب في قلوبهم الإيمان، وإن كان في ذلك التابوت بعض التوراة موضوعاً ففي تابوت قلوبهم هذه الأمة جميع القرآن محفوظاً، وإن كان في تابوت بيوت فيها صور الأنبياء ففي تابوت قلوبهم خلوات لا يسع فيها معهم غير الله كما قال تعالى: "لا تسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن" ، فإذا تيسر لطالوت روح الإنساني أن يؤتى تابوت القلوب الرباني فسلم إليه ملك الخلافة وسرير السلطان واستوثق عليه جميع أسباط الإنساني فلا يركن إلى الدنيا الغدارة المكارة بل يتهجر منها ويبرز لقتال جالوت النفس الأمارة { إِنَّ فِي ذَلِكَ } [البقرة: 248]، الإشارة { لآيَةً لَّكُمْ } [البقرة: 248] لنبينها لكم وأعلاماً عن أحوالكم: { إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } [البقرة: 248]، بحقائق القرآن وإشاراته.