التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّاظِرِينَ
٦٩
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ
٧٠
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ
٧١
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
٧٢
فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٧٣
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
٧٤
-البقرة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا } [البقرة: 69] يعني: لون البقرة نفس تصلح للذبح في الجهاد { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا } [البقرة: 69] يعني: صفرة زين لا صفرة شين كما هي سيما الصالحين { تَسُرُّ ٱلنَّاظِرِينَ } [البقرة: 69]، من نظر إليها يشاهدها في غرتهم، قد ألبست من آثر الطاعات ويطالع من طلعتهم أثار شواهد { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ } [الفتح: 29] وقوله عليه السلام: "أولياء الله الذين إذا رؤوا ذكر الله" .
{ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } [البقرة: 70]، إشارة إلى كثرة تشبه الباطلين بزي الطالبين وكسوتهم وهيئاتهم { وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } [البقرة: 70]، إلى الصادق منهم فالاهتداء يتعلق بمشيئة الله تعالى وبدلالته، كما كان حال موسى والخضر - عليهما السلام - فلو لم يدل الله موسى عليه السلام لما وجده قوله تعالى: { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ } [البقرة: 71]، إشارة إلى نفس الطالب الصادق التي لا تحتمل الذلة بأن تثير بآلة الحرص أرض الدنيا بطلب زخارفها، وتتبع هوى النفس وشهواتها، كما قال صلى الله عليه وسلم: "عز من قنع وذل من طمع" وقال: "ليس للمؤمن أن يذل نفسه" .
{ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ } [البقرة: 71]، حرث الدنيا بماء وجهه عند الخلق وعند الحق، كقوله تعالى: { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [الشورى: 20] { مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا } [البقرة: 71] أي: نفس مسلمة من آفات صفاتها مستسلمة لأحكام ربها ليس فيها غير الله ولا مقصد لها إلا الله، كما وصفهم الله تعالى بقوله: { لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [البقرة: 273] إلى { إِلْحَافاً } قوله تعالى: { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [البقرة: 71].
ثم أخبر عن قتلهم القتيل وإحياء القتيل بقوله تعالى: { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا } [البقرة: 72]، الآيتين والإشارة في تحقيقهم: أن قوله تعالى: { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً } فيها إشارة إلى قتل النفس، وإن القتيل هو القلب الروحاني، وإن إحياءه في قتل النفس البهيمية، كما قال قائلهم:

أَقَتلوني يا ثِقاتي إِنَّ قَتلي حَياتي

وكما أشار بعضهم:

سر بالإرادة تحيى بالطبيعة أو مت بالطبيعة تحيي بالحقيقة

{ فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا } فشككتم واختلفتم أنه كان من الشيطان أم من الدنيا أم من النفس الأمارة بالسوء.
{ وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [البقرة: 72]، بإحالة النفس إلى الشيطان ومكرها إلى الدنيا وزينتها والشيطان والدنيا يخيلان إلى النفس الأمارة وهواها { فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا } [البقرة: 73]، وكما أن الله تعالى أراد أن يحيي قتيلهم ليفصح بالشهادة على قاتله أمرهم أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيى فيخبر بقاتله فكذلك إذا أراد الله أن يحيي قتيل قلب الإنسان أمر بقتل حيوان النفس بسيف المجاهدات ليحيى قتيل قلبه بأنوار الشهادات كقوله تعالى:
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ } [الأنعام: 122].
وكما أن البقرة بعد ذبحها ضرب على القتيل قام بإذن الله تعالى، وقال: قتلني فلان، كذلك من ضرب لسان النفس المذبوح بسكين الصدق على قتيل القلب بمداومة الذكر يحيي الله قلبه بنوره فيقول،
{ وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ } [يوسف: 53].
{ كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ } [البقرة: 73]، يحيي الله الأجساد في الآخرة والقلوب في الدنيا، { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } [البقرة: 73]، دلالة مع الخواص وبراهينه مع أخص الخواص، كما قال تعالى في خواص المؤمنين
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ } [فصلت: 53]، وقال في يوسف عليه السلام وهو أخص الخواص: { وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [يوسف: 24] { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [البقرة: 73]، فأثبت الله تعالى العقل لمن كان مستعداً لرؤية آياته باستحقاق إرادة الله تعالى آياته لا برؤية نفسه، فإن العقل الحقيقي هو المستفاد من أنوار مواهب الله تعالى، كما قال تعالى: { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [النور: 40]، وقال في الذين لهم عقل المعاش دون المستفاد: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [البقرة: 18].
ثم أخبر عن أهل هذه الشقاوة ووصفهم بالقساوة بقوله تعالى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ } [البقرة: 74]، والإشارة في تحقيق الآية أن اليهود وإن شاهدوا عظيم الآيات، وطالعوا واضح البينات فحين لم تساعدهم العناية ولم توافقهم الهداية لم تزدهم كثرة الآيات إلا قسوة على قسوة، ولم تنزلهم من مكامن التقدير إلا شقوة على شقوة، وذلك لأن الله تعالى أراهم الآيات الظاهرة فرأوها بنظر الحس، ولم يرهم البرهان الذي يراه القلب فيعجزهم عن التكذيب والإنكار، يدل عليه قوله تعالى:
{ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [يوسف: 24].
وسُئل الحسن ابن منصوررحمه الله عن البرهان فقال: البرهان واردات ترد على القلوب تعجز النفوس عن تكذيبها، فهكذا حال بعض المغرورين الممكورين من يدعي الطلب إذا لم يكن لهم شيخ كامل واصل حين شرعوا في الرياضة وأخذوا في المجاهدات بترك اللذات والشهوات يلوح لهم من صفاء الروحانية ظهور بعض الآيات وخرق العادات، فإذا لم يكن مقارناً برؤية البرهان ليكون مؤيداً بالتأييد الإلهي مؤكداً بالعناية الأزلية لم يزدهم إلا العجب والغرور والخسران والقساوة والطغيان، وأكثر ما يقع هذا للبرهان والمتفلسفة الذين استدرجهم الحق بالخذلان من حيث لا يعلمون، وإنما شبه قلوبهم بالحجارة للقسوة وعدم اللين للذكر الحقيقي كقوله تعالى:
{ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } [الزمر: 23]، والذكر الحقيقي ما يتداركه الحق بذكره كقوله تعالى: { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } [البقرة: 152].
ثم بين أنها دون الحجارة بقوله: { وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ } [البقرة: 74]، والإشارة فيها إلى مرتبة القلوب في القسوة؛ بعضها بمرتبة الحجارة التي تنفجر منها الأنهار، وهو قلب تظهر عليه تغلبات أنوار الروح لصفائه بعض الأشياء المشبهة بخرق العادات كما يكون لبعض الرهابين والكهنة.
وبعضها بمرتبة { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ } [البقرة: 74]، وهو قلب تظهر عليه في بعض الأوقات عند انخراق حجب البشرية من أنوار الروح، فيريد بعض الآيات والمعاني المعقولة، كما يكون لبعض الفلاسفة والشعراء.
وبعضها بمرتبة { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [البقرة: 74]، وهو قلب فيه بعض الصفاء فيكون بقدر صفائه قابل عكس أنوار الروح من وراء الحجب، فيقع فيه الخوف والخشية كما يكون لبعض أهل الإيمان.
وأهل هذه لمراتب مشتركة بين قلوب المسلمين وغيرهم، فالفرق بينهم أن أحوال هذه المراتب للمسلمين مؤيدة بنور الإسلام، فتزيد في قربهم وعلوهم ودرجاتهم ولغيرهم غير مؤيدة بالإيمان، فتزيد في غرورهم وردهم واستدراجهم، والمسلمون مخصوصون من غيرهم بكرامات وفراسات تظهر لهم من تجلي أنوار الحق دون غيرهم، كما قال تعالى:
{ أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } [الزمر: 22]، وسيجيء شرحه في موضعه إن شاء الله تعالى، وبعض القلوب بمرتبة الحجارة القاسية التي لا يؤثر فيه القرآن والأخبار والحكمة والموعظة لقوله تعالى: { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة: 74]، وهذا القلب مخصوص بالكافر والمنافق، فإنه قلب مختوم عليه وفيه الدلالة على أن القلوب على فطرة الله التي فطر الناس عليها، ثم بالابتكار والجحود واستيلاء حب الدنيا وزخارفها وتتبع الشهوات ولذاتها تقسوا وتشتد قسوتها، كقوله تعالى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ } [البقرة: 74].
{ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة: 74] أي: يجازيكم عاجلاً وآجلاً، فأما عاجلاً: بأن يجعل إنكاركم سبب غفلة وقسوة قلوبكم فيقسيها بأعمالكم الفاسدة ويطبع عليها بطابع إنكاركم وجحودكم كما قال تعالى:
{ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } [النساء: 155] وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من قلب إلا هو بين أصبعين من أصابع الرحمن، فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه" وأما أجلاً يعاقبكم يوم القيامة على قدر سيئات أعمالكم، كما قال تعالى: { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى: 40].