التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٨٢
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ
٨٣
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ
٨٤
ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِٱلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
٨٥
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
٨٦
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ
٨٧
-البقرة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [البقرة: 82]، من أهل الطلب بأن المنازل إلى المقصد، وإن كانت متناهية، فإن السير في المقصد غير متناه { وَعَمِلُواْ } [البقرة: 82]، على قانون الشريعة بإشارة شيخ الطريقة { ٱلصَّالِحَاتِ } [البقرة: 82]، وهي المبلغات إلى الحقيقة أولئك أصحاب الوصول إلى جانب الأصول خالدين فيها بالسير إلى أبد الآباد، وكذلك من اكتسب اعتقاداً فساداً من المتفلسفة على خلاف الشريعة وأحاطت به خطيئته فيبقى عليه إلى إن يموت { فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة: 81] أبد الآباد، ولن تنفعهم المجاهدات ولا النظر في المعقولات والا الاستدلال بالشبهات، والذين آمنوا منهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعملوا الصالحات من المأمورات وغير المنهيات، { أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ } [البقرة: 82]، وأهل الدرجات والغرفات في الجنات { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة: 82].
ثم أخبر الميثاق والعبودية على الإطلاق بقوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } [البقرة: 84]، إلى قوله: { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [البقرة: 86] والإشارة فيها { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } [البقرة: 84] أي: في عهد
{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف: 172]، { لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ } [البقرة: 84]، بامتثال أوامر الشيطان في استجلاب حظوظ النفس، فإنه يسعى في إراقة دماء قلوبكم، كما قال بعضهم:

إلى حَتفي سعى قدَمي أرى قَدمي أراقَ دَمي

وكذلك لا تسفكون بتربص الشيطان بينكم تسفكوا دماءكم بعضكم دماء بعض، كما قالت الملائكة في حقكم: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ } [البقرة: 30]، { وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ } [البقرة: 84]، غير دينكم الذي كنتم عليه في أصل الفطرة { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } [البقرة: 84]، بقولكم { بَلَىٰ } شهدنا والذي يدل على هذا التأويل، قوله تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [يس: 60]، { ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ } [البقرة: 85]، باستيفاء حظوظ النفس ولذاتها وشهواتها، فإن المجرمين اقتضوا بأيديهم حتفهم وآثروا باختيارهم ما فيه هلاكهم واستئصالهم، قال بعضهم:

بعين نفسي أصبت نفسي فالله بيني وبين عيني

{ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ } [البقرة: 85]، فيعاون بعضكم بعضاً على الإعراض عن الله تعالى والتساعد في مزاولة الحظوظ والخروج عن مقامات الحقوق فآفات أحوالكم غير لازمة عليكم بل هي متعدية عنكم إلى إخوانكم وقرنائكم { تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِٱلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [البقرة: 85] أي: مضرتكم لأخوانكم على بلائهم مظاهرة الشيطان ونصرته عليهم بما فيه هلاك أنفسهم.
{ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ } [البقرة: 85]، وهم أصناف شتى فمن أسير في قيد الهوى فإنقاذه بأن يدله على الهدى، ومن أسير بقيد حب الدنيا فخلاصه في إخلاص ذكر المولى، ومن أسير بقى في قيد الوسواس فقد استهواه الشيطان ففداؤه أن يرشده إلى اليقين بلوائح البراهين لتنقذه من الشكوك والظنون والتخمين ويخرجه من ظلمة التقليد وما تعود بالتلقين، ومن أسير تجده في أسر هواجس نفسه ربيط زلاته ذلك أسير في إرشاده إلى إقلاعها وإعانته وإنجازه على أرتداعها، ومن أسير تجده في أسر صفاته وحبس وجوده فنجاته في أن تدله على الحق فيما تحل عنه وثائق الكون، ومن أسير تجده في قبضة الحق فبجزائه ليس لأسراهم فداء ولا لقتلهم قود ولا لربيطهم خلاص، ولا لبطشهم مناص ولا عنهم بدل ولا معهم جدل، ولا إليهم لغيرهم سبيل ولا لديهم إلا بهم دليل ولا منهم فرار ولا معهم قرار: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ } [البقرة: 85] أي: بالذي سمعتموه من ربكم في أول الخطاب بقوله تعالى:
{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف: 172]، آمنتم وقلتم { بَلَىٰ }.
{ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } [البقرة: 85] أي: بالذي عاهدتم عليه عند أخذ الميثاق ألا تعبدوا غيره من الشيطان والدنيا والنفس والهوى { فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ } [البقرة: 85]، وهو عمى القلب عن المشاهدة والعمى في تيه الباطل { فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ } [البقرة: 85]، وهو المبالغة في عمى القلب، كما قال تعالى:
{ وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً } [الإسراء: 72] { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } [البقرة: 86]، نعيمها ولذاتها وشهواتها { بِٱلآخِرَةِ } [البقرة: 86]، برفعة درجاتها وعلو عرفانها { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ } [البقرة: 86]، برحمة رب العالمين { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [البقرة: 86]، بشفاعة الشافعين.
ثم أخبر عن كمال فضله وغاية جهلهم وسنة عدله بقوله تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ } [البقرة: 87]، والإشارة فيها أنا وصلنا لهم الخطاب وأردفنا رسولاً بعد رسول الجميع دعوا إلى واحد لكنهم أصغوا إلى دعاء الداعين بسمع الهوى، فما استلذته النفوس قبلوه وما استثقلته أهواءهم هجروه، وهذا حال أكثر البطالين الذين تلبسوا وتشبهوا بالطالبين الصادقين بعضهم بالزي واللباس وبعضهم بالعلم والوعظ والاقتصاص قبول الناس في هذا مع أهل البصيرة من المشايخ الواصلين والعلماء الراسخين يصغون إلى كلماتهم وإشاراتهم ليسمع الهوى في استحلته نفوسهم قبلوه، وما استكرهته أهواءهم واستغرتهم عقولهم نبذوه وراء ظهورهم بل طعنوا فيه وشنعوا عليه بجهالتهم ونكره لمقالهم، فيكذبون فريقاً منهم قراراً عن تحمل أعباء الطلب ويقاتلون فريقاً بالجدال وإثارة الفتنة حسداً وإنكاراً والفتنة أشد من القتل.