التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي
والدليل على هذا التأويل قوله تعالى: { قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ } [طه: 45] إلى قوله: { وَلاَ يَنسَى } [طه: 52] قوله: { قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ } [طه: 45] يشير: أن الخوف مركوز في جبلة الإنسان حتى لو بلغ مرتبة النبوة والرسالة، فإنه لا يخرج من جبلته كما قال: { إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ } [طه: 45] يعني: بأن يقتلنا: ولكن الخوف ليس بجهة القتل، وإنما تخاف فوات عبوديتك بالقيام لأداء الرسالة والتبليغ، كما أمرتنا إذ بتمرده وبجهله ولا ينقاد لأوامرك أو يسبك، ويقول: { { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [النازعات: 24].
وبقوله تعالى: { قَالَ لاَ تَخَافَآ } [طه: 46] يشير إلى أن الخوف إنما يزيل عن جبلة الإنسانية بخطابي إليه بأمر التكوين كما قال: { { يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } [الأنبياء: 69] فكانت بتكوين الله إياها برداً وسلاماً { إِنَّنِي مَعَكُمَآ } [طه: 46] بالنظرة والحفظ في الأزل؛ إذ كنت أقدر نصركما، وهلاكه على أيديكما { أَسْمَعُ } [طه: 46] هذه مقالتكما قبل وجودكما { وَأَرَىٰ } [طه: 46] أحوالكما وأحواله قبل أن أخلقكما بهذه الصفات.
{ فَأْتِيَاهُ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ } [طه: 47] أعلم أن فائدة إتيانهما رسالتهما إلى فرعون وتبليغه كانت عائدة إلى موسى وهارون نفسهما لا إلى فرعون في علم الله عز وجل، فالحكمة في إرسالهما: أن يكونا رسولين من ربهما مبلغين منذرين؛ ليتحقق رسالتهما، وينكر فرعون ويكفر بهما؛ ليتحقق كفره، { { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [الأنفال: 42] { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ } [طه: 47] وهي اليد البيضاء بها يشير إلى يد صافية فارغة من الدنيا والآخرة { وَٱلسَّلاَمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلْهُدَىٰ } [طه: 47] أي: سلم من استسلم، وابتع هدى الله وهي ما جاء به الأنبياء عليهم السلام.
{ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ ٱلْعَذَابَ } [طه: 48] ضد السلامة { ٰ مَن كَذَّبَ } [طه: 48] أي: كذب وكفر بما جاء به الأنبياء { وَتَوَلَّىٰ } [طه: 48] أي: أعرض عن الله بمتابعة الهوى { قَالَ } [طه: 49] فرعون { فَمَن رَّبُّكُمَا يٰمُوسَىٰ } [طه: 49] واختص موسى بالذكر دون هارون مع أن الخطاب كان معهما؛ لأن صاحب الآيات كان موسى وكانت الرسالة له بالأصالة ولهارون بالوزارة بالتبعية.
{ قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ } [طه: 50] أعطى كل شيء استعداد لما خلق له { ثُمَّ هَدَىٰ } [طه: 50] أي: يسره لما خلق له والذي يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "اعملوا كل ميسر لما خلق له" معناه: أن الله تعالى خلق المؤمن مستعداً لقبول فيض الإيمان، ثم هداه إلى قبول دعوة الأنبياء ومتابعتهم، وخلق الكافر لقبول فيض القهر والخذلان والتمرد على الأنبياء مخالفتهم.
{ قَالَ } [طه: 51] يعني: فرعون { فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأُولَىٰ } [طه: 51] يعنيك المتقدمين الذين لم يقبلوا دعوة الأنبياء فألفوهم { قَالَ } [طه: 52] أي موسى. { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ } [طه: 52] يعني: علم كل واحد من القرون أنه تعالى لماذا خلقه مستعداً لقبول الإيمان، ولقبول الكفر ثابت في أم الكتاب عنده { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي } [طه: 52] عن الكتاب وعلمه { وَلاَ يَنسَى } [طه: 52].