التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ
٣٠
وَجَعَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
٣١
وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ
٣٢
وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ
٣٣
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَالِدُونَ
٣٤
كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
٣٥
-الأنبياء

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن الآيات مما في الأرض والسماوات بقوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا } [الأنبياء: 30] يشير إلى أن أرواح المؤمنين والكافرين خلقت قبل السماوات والأرض كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنه تعالى خلق الأرواح وكانت شيئاً قبل الأجساد بألفي عام" ، وفي نهاية رواية: "بأربعة آلاف سنة" وكان خلق السماوات والأرض بمشهد من الأرواح وكانت شيئاً واحداً كما جاء في الحديث المشهور: "أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بنظر الرحمة، فبحمد نصفها فخلق منه العرش فارتعد العرش، فكتب الله تعالى: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فسكن العرش وترك الماء على حالته يرتعد إلى يوم القيامة، وذلك قوله تعالى: { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ } [هود: 7]" وفي رواية ابن عمران بن حصين: "وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض" أي: ثم من تلاطم أمواجه صعدت أدخنة، وارتفع بعضها متراكماً على بعض، وكان لها زبد فخلق منها السماوات والأرض طباقاً، وكانتا رتقاً فخلق الريح منها فتق بين أطباق السماء وأطباق الأرض.
كما أخبر بقوله تعالى:
{ { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [فصلت: 11] وإنما خلقها من دخان ولم يخلقها من بخار؛ لأن الدخان خلق متماسك الأجزاء يستقر في منتهاه، والبخار كم كمال عمله وحكمته، ثم بعد ذلك مدَّ الزبد على وجه الماء ودحاه فصار أرضاً بقدرته، وذلك قوله تعالى: { { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [النازعات: 30] ثم نظر إليها بعين الرحمة فجمدت كما جاء في الحديث قوله: "فبحمد بعضها" وهو التذلل في قوله تعالى: { { جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً } [الملك: 15] وأشار إلى هذه الجملة بقوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } [الأنبياء: 30] في قوله تعالى: { { جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ } [الملك: 15] { كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا } [الأنبياء: 30].
وبقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [الأنبياء: 30] يشير إلى أنه خلق حياة كل ذي حياة من الحيوانات من الماء الذي عرشه، وذلك أن الجوهرة التي هي مبدأ الموجودات هو الروح الأعظم خلقت أرواح الإنسان والملك من أعلاها، وخلقت أرواح الحيوان والدواب من أسفلها، وهو الماء كما قال تعالى:
{ { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ } [النور: 45] وكان ذلك كله بمشهد من الأرواح ولذلك قال تعالى: { أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } [الأنبياء: 30] أي: أفلا يؤمنون بما خلقنا بمشهد من أرواحهم.
وبقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ } [الأنبياء: 31] يشير إلى: الأبدال الذين هم أوتاد الأرض وأطوارها، فأهل الأرض بهم يرزقون وبهم يمطرون { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً } [الأنبياء: 31] أي: وجعلنا في إرشادهم الفجاج والسبل إلى الله تعالى { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [الأنبياء: 31] بهم إلى الله تعالى.
{ وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ } [الأنبياء: 32] سماء القلب { سَقْفاً مَّحْفُوظاً } [الأنبياء: 32] من وساوس شياطين الجن والإنس { وَهُمْ } [الأنبياء: 32] أي كافر النعمة { عَنْ آيَاتِهَا } [الأنبياء: 32] عن رؤية آياتها التي أودعنا فيها من الدلائل والبرهان والأسرار والحكم البالغة التي بها يهتدي وعن التفكر فيها { مُعْرِضُونَ } [الأنبياء: 32]؛ لأنهم أقبلوا بكليتهم إلى الدنيا، وطلب زخارفها والتلذذ بشهواتها، وأعرضوا عن الله وشكر نعمه، والقيام بعبوديته.
{ وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْلَّيْلَ } [الأنبياء: 33] ليل النفس الظلمانية { وَٱلنَّهَارَ } [الأنبياء: 32] نهار القلب المضيء { وَٱلشَّمْسَ } [الأنبياء: 32] وهي شمس نور الله الذي نور الله به قلوب أوليائه { وَٱلْقَمَرَ } [الأنبياء: 33] وهو نور الإسلام الذي شرح الله به صدور المؤمنين، وجعل بضوئه نفوسهم قرأ { كُلٌّ } [الأنبياء: 33] من أهل الإسلام، وأهل الإيمان، وأهل الولاية { فِي فَلَكٍ } [الأنبياء: 33] أفلاك أطوار القلب { يَسْبَحُونَ } [الأنبياء: 33] يبحرون ويسلكون.
ثم أخبر عن الرحلة من دار الفناء إلى دار البقاء بقوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ } [الأنبياء: 34] يشير إلى أنه ليس من شأنه أن يخلد آدمياً في الدنيا، وإن كانا قادرين على تخليده { أَفَإِنْ مِّتَّ } [الأنبياء: 34] يا محمد كما هو من سنتنا { فَهُمُ ٱلْخَالِدُونَ } [الأنبياء: 34] في الدنيا بقدرتنا، بل أنت ميت وهم ميتون كما هو من سنتنا دليله قوله تعالى:
{ { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [الزمر: 30].
وبقوله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ } [الأنبياء: 35] يشير إلى أن من الحكمة البالغة والنعمة السابغة أنه جمع في طينة الإنسان ما أفرد به الملائكة بروح نوراني علوي باق أبدي، وأفرد الحيوانات بروح حيواني سفلي فانٍ، فأفرد الإنسان بتركيب الروحين فيه فانٍ حيوانيٍ وباقٍ ملكي، فالحكمة في ذلك: أن الروح الملكي غير متغذ، وإنما بقاؤه بالتسبيح والتقديس وهو بمثابة النفس للحيوان، ولهذا ليس للملك الترقي من مقامه والروح الحيواني قابل للترقي؛ لأنه متغذ، فجعل الله الإنسان مركباً من الروحين؛ لينقطع روحه الملكي بطبع روحه الحيواني المتغذي، وقبول الفناء الذي يعبر عنه بالموت؛ ليصير مترقياً كالحيوان، وينطبع روحه الحيواني بطبع روحي الملكي؛ ليصير مسبحاً ومقدساً كالملك باقياً بعد المفارقة بخلاف الحيوانات؛ ولكن من اختصاص الروح الحيواني في التغذي: أن يجعل الغذاء جنس المتغذي، ويلونه بلونه، وصفته الروح الإنساني أن يكون متلوناً بلون الغذاء ومتصفاً بصفته؛ وذلك لأن غذاء الروح الحيواني الطعام الشراب، وهي من الجماد والنبات والحيوان المذبوح المطبوخ فيهما الرطوبة واليبوسة والحرارة والبرودة مركوزة بالطبع، والروح الحيواني غالب عليها ومتصرف فيها بالطبع فيجعلها من جنس المتغذي، وغذاء الروح الإنساني ذكر الله وطاعته، والشوق والمحبة إلى لقائه الكريم، وفيه النور والجذبة الإلهية وهي غالباً على الروح؛ فالروح يتجوهر بجوهرها، وفي الجوهرة بجوهر النور الرباني نوع من الفتاء عن وجوده والبقاء بنور ربه، فهو بمثابة ميت ذاق الموت، ثم أحيي بنور ربه، كما قال الله تعالى:
{ { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ } [الأنعام: 122] فهذا الموت الذي استحق به الروح الإحياء بنور الله إنما استقاه من النفس الحيوانية التي هي ذائقة الموت، فافهم جيداً.
وبقوله تعالى: { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء: 35] يشير إلى أنا نبلوكم بالمكروهات التي تسمونها شراً وهي: الخوف والجوع والنقص من الأموال والأنفس والثمرات، وأنه فيها موت النفس وحياة القلب، ونبلوكم بالمحبوبات التي يسمونها الخير وهي:
{ { ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ } [آل عمران: 14] وفيها حياة النفس وموت القلب، وكلتا الحالتين ابتلاه، فمن صبر على موت النفس على صفاتها بالمكروهات وعن الشهوات فله البشارة بحياة القلب واطمئنان النفس، وله استحقاق الرجوع إلى ربه بجذبة: { { ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ } [الفجر: 28] للطف، كما قال الله تعالى: { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [الأنبياء: 35] فيصير ما يحسبه الشر خيراً، كما قال تعالى: { { وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة: 216] ومن لم يصبر على المكروهات وعن الشهوات المحبوبات، ولم يشكر عليها بأداء حقوق الله تعالى فله العذاب الشديد من كفران النعمة، ويصير ما يحسبه الخير شراً كما قال تعالى: { { وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } [البقرة: 216] فيرجع إلى الله بالقهر في السلاسل والأغلال.