التفاسير

< >
عرض

قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٠
يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ
٢١
وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
٢٢
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَـٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢٣
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٢٤
وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٢٥
-العنكبوت

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

وهذا الرجوع والعود معنى قوله: { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } أي: أرض الوجود الإنساني { فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ } بالعبور على المنازل المذكورة من العدم كذلك الرجوع بالعبور عليها أن يعود إلى العدم { ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ } بعد انخلاعه عنه من كسوة الأنانية يلبس خلعة الهوية لاختصاصه بمنزلة الخلافة.
{ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [العنكبوت: 20] إن الله قادر على أن يجعل المستقر لهذه الكرامة عند إظهار القهر لشر البرية { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } [العنكبوت: 21] بعذاب البعد والقطيعة والهجران { وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ } [العنكبوت: 21] بتجرده عن كسوة الوجود، وتوقده بالوحدانية في الوصول والوصال { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ } [العنكبوت: 22] أرض البشرية { وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } [العنكبوت: 22] سماء الروحانية لاستجلاب مقامات قرب الملكوتية { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ } [العنكبوت: 22] تتولونه { وَلاَ نَصِيرٍ } [العنكبوت: 22] يستخلصكم عن بطشه بجذبة العناية إذ لم يعرفوا قدر هذه النعمة الجسمية، بقوله: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَلِقَآئِهِ } [العنكبوت: 23] يشير إلى طائفة من أرباب الطلب وأصحاب السلوك العابرين على بعض المقامات، المشاهدين آثار شواهد الحق الكاشفين ببعض الأسرار، ثم أدركتهم القربة بحجاب العزة فابتلاهم الله للغيرة بالالتفات إلى الغير، فحجبوا بعد أن كوشفوا، واستتروا بعد أن تجردوا، واستدرجوا بعد أن رفعوا، وبعدوا بعد أن قربوا، وحاروا بعد أن كاروا نعوذ بالله من الحور بعد الكور.
ثم أخبر عن حالهم ومآلهم فقال: { أُوْلَـٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي } [العنكبوت: 23] عند قسمة الرحمة على المرحومين دون المرجومين { وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [العنكبوت: 23] وهذا عذاب الطرد والهجران والقطيعة والحرمان.
ثم أخبر عن جواب قوم إبراهيم له بغير الصواب بقوله تعالى: { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ } [العنكبوت: 24] يشير إلى أن من شأن إبراهيم الروح أن يدعو تمرود النفس وقومه أي: صفاتها إلى الله ونهاهم عن عبادة الأوثان من الهوى والدنيا وما سوى الله، وأن من شأن نمرود النفس الأمارة بالسوء وصفاتها أن يجيبوه من لوم طبعهم وغاية سفههم بقولهم: { ٱقْتُلُوهُ } بسيف الكفر والشرك وترك عبادة الله ولزوم عبادة غير الله، { أَوْ حَرِّقُوهُ } بنار الشهوات والأخلاق الذميمة، فإن هاتين الحالتين أسباب هلاكه مودعة فأوقدوا عليه نار الشهوات والأخلاق الذميمة { فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ } [العنكبوت: 24] وجعلها عليه برداً وسلاماً إذ أخلص جوهر الروحية من حرقة نار الشهوات والأخلاق، ومتعه بالخصائص المودعة فيها مما لم يكن في جِبلة الروح مركوزاً وكان به محتاجاً في سيره، ولهذه الاستفادة بعث إلى أسفل سافلين القالب { إِنَّ فِي ذٰلِكَ } [العنكبوت: 24] أي: في قصة إبراهيم وقومه { لآيَاتٍ } [العنكبوت: 24] لعبرة { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [العنكبوت: 24] بحقائق القرآن وأسراره وأن له ظهراً وبطناً.
وبقوله: { وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [العنكبوت: 25] يشير إلى ما هو من خصائص إبراهيم الروح إذا كان مؤيداً بالتأييد الإلهي وإلهامات الحق؛ إذ عاين ما هو من مصالحه ومفاسده ولغيره منها في الدنيا والآخرة، ويرى أحوال الآخرة كأحوال الدنيا عياناً، وأن تحدثها النفس نصيحة لها، كما قال { إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ } الهوى والدنيا معبوداً بخصوصية الظلومية والجهولية التي أنتم مجبولون عليها { مَّوَدَّةَ } طبيعية { بَيْنِكُمْ } أي: بين النفس وصفاتها وبين شهوات الدنيا في { فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أي من بقائكم في الدنيا { ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [العنكبوت: 25] بعد الخروج عن الدنيا { يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } [العنكبوت: 25] أي: يكفر النفس بشهوات الدنيا إذا شاهدت وبال استعمالها وخسران حرمانها عن شهوة الجنة { وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } [العنكبوت: 25] أي: ويلعن النفس على الدنيا أنها كانت سبب شقاوتها ويلعن الدنيا عليها.