التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
٤٦
وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ فَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَـٰؤُلاۤءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ ٱلْكَافِرونَ
٤٧
وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ
٤٨
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ ٱلظَّالِمُونَ
٤٩
وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا ٱلآيَاتُ عِندَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
٥٠
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٥١
-العنكبوت

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن جلال أهل الكتاب بأحسن الخطاب وطريق الصواب بقوله تعالى: { وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [العنكبوت: 46]، يشير إلى أهل العلم الظاهر إذا جادلوا أرباب القلوب وأصحاب العلوم الباطنة، فالواجب على أرباب القلوب مجادلتهم بالتي هي أحسن، وذلك بأن يكون منهم للخصم تمكين وفي خطابهم ثابتين، وفي قبول الحق أنصاف واعتقاداً نصرة لما رأوه صحيحاً بالحجة، وترك الميل إلى شيء باطل بتعقب المذهب، وفي تقرير الحق والدلالة له - يعني الحقيقي - رفق وفي سكونه للتفهم، ولين في الكلام بحيث لم تتبرم النفوس وتهيج فيها البقية الأمارية بالسوء وعصبية المذهب، فيمنعهم عن قبول الحق ويحرضهم على الجلال بالباطل فحينئذ لا يتجادلوهم؛ لئلا يزدادوا إنكاراً وفتناً { وَقُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْنَا } [العنكبوت: 46] من العلوم الباطنة وكشف الحقائق { وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } من العلوم الظاهرة والأحكام الزاهرة بالحجج الباهرة { وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِدٌ } والدين واحد { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [العنكبوت: 46] لقبول الحق وترك الباطل.
وبقوله: { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ } [العنكبوت: 7] يشير إلى أنه كما أنزلنا الدلائل والبراهين العقلية على أهل الظاهر كذلك أنزلنا على أهل الباطن الدلائل والبراهين الكشفية بما رآه من الشواهد الخفية، { فَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ } [العنكبوت: 47] يعني: أرباب القلوب الذين علموهم في أنباء الحق موحية لاندارسهم الكتب وتحصيل العلوم بالتكرار فإنهم { يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي: يصدقونكم بما تظهرون من حقائق العلوم وتشيرون إلى وقائعها { وَمِنْ هَـٰؤُلاۤءِ } يعني: على الظاهر على أنواع فمن حرم بنظرنا إليه بالعناية فمنهم: { مَن يُؤْمِنُ بِهِ } أي: بصدقكم بما تقيمون عليه من الدلائل الكشفية والبراهين بالواردات الحقيقية دلالة لهم إلى الحق تعالى، ومنهم محروم وسَمْنَاهم بالشقاوة فما استقبلتم إلا بالإنكار جحود، وذلك بالجهالة والضلالة.
ثم أخبر عن رعاية أهل العناية عن زلات السلوك بقوله تعالى: { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ } [العنكبوت: 48] يشير إلى أن القلب إذا تجرد عن المعلومات والسر تقدير عن يومان والروح تنزه عن الموجودات بالكافر أقرب إلى الفطرة، ولم يشتغلوا لقبول النفوس السفلية من الخسيسات والخيالات، والوهميات، فكانوا لما صادفهم من المغيبات قابلية من غير ممازجة طبع ومشاركة كسب وتكليف وتكيف بشرية، ولما كان قلب النبي صلى الله عليه وسلم في البداية ممزوجاً بعمل جبريل إذ أخرج منه ما أخرج، وقال: هذا حظ الشيطان منك. وفي النهاية محفوظاً عن النفوس التعليمية بالقراءة والكتابة قابلاً لإنزال القرآن عليه مختصاً به عن جميع الأنبياء.
كما قال:
{ { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ } [الشعراء: 193-194] ثم أثبت هذه الرتبة بتبعية لمتابعيه فقال: { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } [العنكبوت: 49] يعني: أوتوا من الغيب لا من التعلم به يشير إلى قلوب الخواص من العلماء بالله خزائن الغيب فيها أودع براهين حقه وبينات سره ودلائل توحيده وشواهد ربوبيته فقانون الحقائق لقلوبهم، وكل شيء يطلب من موطنه ومحله فالدر يطلب من الصدق؛ لأن ذلك مسكنه، كذلك المعرفة، ووصف الحق يطلب من قلوب خواصه؛ لأن ذلك قانون معرفة، ومحل تجلي صفاته بل يطلب حضرة جلاله عند حضائر قدس قلوب خواص عباده كما سأل الله تعالى موسى عليه السلام قال: "إلهي أين أطلبك؟ قال: أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي".
وبقوله: { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ ٱلظَّالِمُونَ } [العنكبوت: 49] يُشير إلى أن الحرمان من رؤية الآيات من خصوصية دين الحجة والإنكار إذا غلب على القلوب، فتصدأ كما تصدأ المرآة، فلا يظهر فيها نقوش الغيوب وتعمى عن رؤية الآيات وبقوله: { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ } [العنكبوت: 50] يُشير إلى عمى بصر قلوبهم؛ لأنه تعالى أنزل عليه آية واضحة وهو القرآن فقال: { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ } [العنكبوت: 51] وهو إتيان بدلالة:
أحدهما: أن نفس القرآن آية لأنه لا يمكنهم معارضته ولا الإتيان شيء من مثله.
والثاني: أن تيسير قراءة مثل هذا القرآن لا من غير كاتب وقارئ وإنزاله عليه وحفظ أدبه وأحواله وجزالة بيانه آية واضحة وعليها دلائل وفي قوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا ٱلآيَاتُ عِندَ ٱللَّهِ } [العنكبوت: 50] أي: من عند الله والقرآن آية نزلت من عند الله وقوله: { وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [العنكبوت: 50] أي: صدور الإنذار والتبشير على وجه الرسالة من مثلي وأنا أُمِّي آية صادرة من عند الله وسراج منير ذلك لا يبصره إلا عيون قلوب منزهة عن عمى الكفر والشرك وسبل حب الدنيا سورة بنور الإيمان مختصرة بالرحمة الخاصة متذكرة بواعظ الله، وذلك تحقيق قوله: { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [العنكبوت: 51]
{ { قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً } [العنكبوت: 52] أي: مشاهداً إلى أنه من آياته كما كان ابن مريم وأمه آية والقرآن آية وأنهم عمي لا يبصرون الآيات.