التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ ٱلأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ
١٨١
ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ
١٨٢
ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ ٱلنَّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِٱلْبَيِّنَاتِ وَبِٱلَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
١٨٣
فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلزُّبُرِ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُنِيرِ
١٨٤
-آل عمران

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن أمثال هذه الأعمال من الأفعال والأقوال بقوله تعالى: { لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ }، إشارة في الآيتين: إن العبد إذا غلبت عليه الصفات الذميمة واستولى عليه الهوى والشيطان ومات قلبه، تكاملت الصفة الأمارة بالسوء لنفسه، { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } [النجم: 3-4] إليه الشيطان لقوله تعالى: { { وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ } [الأنعام: 121]، والنفس إذا تكلمت بالهوى تدعي بالربوبية ادعاء فرعون، { { فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [النازعات: 24]، فيكون كلامها من صفات الربوبية، وإن من صفات الربوبية قوله تعالى: { { وَٱللَّهُ ٱلْغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ } [محمد: 38]، فإذا تم فساد حال النفس الأمارة بالسوء تثبت صفات الربوبية لنفسها، وصفات العبودية لربها، كقوله تعالى: { لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } [آل عمران: 181]، أثبتوا لأنفسهم صفات الربوبية وهي الغناء، وأثبتوا لله صفة العبودية وهي الفقر، { سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ } [آل عمران: 181]، وسنميت قلوبهم بأقوالهم هذه كما أمتناها بأفعالهم، وهي { وَقَتْلَهُمُ ٱلأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } [آل عمران: 181]، يشير إلى: إن جزاء هذه الأحوال في حق الله سبحانه مثل جزاء هذه الأفعال في حق الأنبياء - عليهم السلام - { وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ } [آل عمران: 181]، القلب الميت { ٱلْحَرِيقِ } [آل عمران: 181]، بنار القهر والقطيعة { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } [آل عمران: 182]؛ أي: بشؤم معاملاتكم القولية والفعلية على وفق الهوى والطبيعة، وخلاف الرضاء والشريعة، { وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [آل عمران: 182]، بأن يضع الشيء في موضعه لهم؛ يعني: لا يجعل المصلح منهم مظهر صفة قهره، ولا المفسد منهم مظهر صفة لطفه، كما قال تعالى: { { ٱللَّهِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام: 124].
ثم أخبر عمن لهم مثل حالهم وشبه مقالهم بقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا } [آل عمران: 183]، الإشارة في الآيتين، فاعلم أولاً أن الإنسان هو العالم الأصغر فيوجد فيه النموذج من كل ما في العالم الأكبر، وفي قوله تعالى: { قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا } [آل عمران: 183]، إشارة إلى: إن في اليهود صفات البهيمة والسبعية والشيطنة، { أَلاَّ نُؤْمِنَ } [آل عمران: 183]؛ أي: لا تستسلم ولا تنقاد { لِرَسُولٍ } [آل عمران: 183]؛ أي: خاطر روحاني وإلهام رباني، أو وارد حق { حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ } [آل عمران: 183]، وهو الدنيا وما فيها نجعلها نسيكة لله عز وجل { تَأْكُلُهُ ٱلنَّارُ } [آل عمران: 183]،
{ { نَارُ ٱللَّهِ ٱلْمُوقَدَةُ * ٱلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى ٱلأَفْئِدَةِ } [الهمزة: 6-7]، التي تقدح من زناد نخبهم، فإن كثيراً من الطالبين الصادقين يجعلون الدنيا وما فيها قرباناً لله تعالى فلا تأكله نار الله، { قُلْ } [آل عمران: 183]، يا دار الحق { قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي } [آل عمران: 183]؛ أي: واردات من الحق { بِٱلْبَيِّنَاتِ } [آل عمران: 183]، والبراهين الظاهرة والحجج الباهرة، { وَبِٱلَّذِي قُلْتُمْ } [آل عمران: 183]؛ أي: بإتيان الدنيا قرباناً، { فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ } [آل عمران: 183]، غلبتموهم وتحرقونهم حتى لم يبق أثر من تلك الواردات، { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [آل عمران: 183]، إنكم تنقادون بالواردات الحق.
فاعلم: أن الله تعالى كما قدر أن بعض الأمم يغلبون بعض أنبيائهم ويقتلونهم قبل الإيمان أو بعد الإيمان بهم، كذلك قدر أن بعض الصفات النفسانية، فغلب على بعض الإلهامات الربانية والواردات الرحمانية فتمحوها، كما قال تعالى:
{ { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } [الرعد: 39] قبل انقيادها لها، وبعد ما انقادت لها، { { لِّيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } [الأنفال: 42]، { فَإِن كَذَّبُوكَ } [آل عمران: 184]، أيها الوارد الرحماني يهود الصفات النفسانية، { فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } [آل عمران: 184] في الصورة والمعنى، { جَآءُوا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلزُّبُرِ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُنِيرِ } [آل عمران: 184]، أي: بالمعجزات الظاهرة والباطنة وغرائب العلوم، وكشف الأسرار واستخراج الحقائق، واستنباط المعاني التي تعجز عن إتيانها فحول وجمهور الحكماء، ولا يعلمها إلا العلماء بالله.