التفاسير

< >
عرض

يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ
١٧
وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
١٨
وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ
١٩
أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ
٢٠
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ
٢١
-لقمان

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

كما أمره الله تعالى بقوله: { يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ } [لقمان: 17] أي: أدمها، وأدامتها في أن ينتهي من الفحشاء والمنكر فإنه تعالى وصف الصلاة بأن { { إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } [العنكبوت: 45] فإنه في الصلاة وإن لم يكن على هيئاتها، ومن لم يكن منتهياً عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له، وإن كان مؤدياً هيئاتها، ولهذا المعنى ذكر عقيب قوله: { أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ }، وقوله: { وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } [لقمان: 17] يشير به إلى أن تأمر قلبك بالمعروف والمعروف ما يوصل العبد إلى الله وتنهي نفسك عن المنكر والمنكر ما يشغل العبد عن الله.
وقوله: { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ } [لقمان: 17] يشير إلى أن البلاء والمحنة فلا بد للمريد الصادق أن يصبر على ما أصابه في أثناء الطلب مما ابتلاه الله به من الخوف من الأعداء في الظاهر أو من الأعداء في الباطن والجوع من الجوع الظاهر عند قلة الغذاء للنفس أو مفارقة الأولاد والأهالي والإخوان والثمرات يعني: ثمرات المجاهدات.
{ { وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ } [البقرة: 155] على هذه الأحوال بأن { { عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ } [البقرة: 157] إلى الحضرة { إِنَّ ذَلِكَ } [لقمان: 17] المقدمات { مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [لقمان: 17] الموصلة للعبد إلى الرب { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } [لقمان: 18] تكبراً وتجبراً معجباً بما فتح الله عليك فتكون بهذا مفسداً في لحظة ما أصلحته في مدة.
{ وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً } [لقمان: 18] كمشية الجبارين وأيضاً ولا تمش مرحاً في طلب الحق تعالى بالتوالي والسكون كمشية المختال الفخور { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } [لقمان: 18] في السير إليه فخور بما مال من الحق على الناس بطريق العجب والنظر إليهم بالحقارة { وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } [لقمان: 19] بين مشي المتكاسل الجبان المتعلل وبين مشي المتسارع المستعجل المقدام { وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } [لقمان: 19] في إظهار الدعاوى وكتمان المعاني كن فانياً عن شواهدك مصطلماً عن قولك مأخوذاً عن حولك وقوتك بما استولى عليك من كشوفات سرك وانظر من الذي يسمع صوتك حتى تستفيق من خمار غفلتك بل من سكر إعجابك وحسبانك، { إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ } [لقمان: 19] فيه إشارة إلى أن الذي يتكلم في لسان المعرفة من غير إذن من الحق وقالوا: هو صوفي يتكلم قبل أوانه.
ثم أخبر عن كمال عنايته في أهل ولايته بقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } [لقمان: 20] يشير إلى ما في سماوات القلوب من الصدق والإخلاص والتوكل واليقين والصبر والشكر وسائر المقامات القلبية والروحانية والمواهب الربانية وتسخيرها بأن يستر العورة عليها بالسير والسلوك المتداركة بالجذبة والانتفاع بمنافعها والاجتناب عن مضارها وإلى ما في أرض النفوس من الأوصاف الذميمة مثل الكبر والحسد والحقد والبخل والحرص والشره والشهوة وغيرها تبديلها بالأخلاق الحميدة والعبور عليها والتمتع بخواصها محترزاً عن عواقبها.
ثم منَّ على العباد بما أنعم عليهم في تسخيرها في الروح لهم وقال: { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } [لقمان: 20] فالنعمة الظاهرة هي تسخير ما في السماوات وما في الأرض الظاهرة من الكواكب السيارة والملائكة المقربين فتسخير الكواكب تيسيرها في البروج على الفلاك التي دبرها لكل واحدة منها فلكاً، وقدر لهن القربات والاتصالات وجعلهن مدبرات العالم السفلي متصرفات بالخواص والطبائع في العناصر الأربعة ولقرابتهن واتصالاتهن مقتضيات في إظهار الأمور المقدرة بتقدير العزيز العليم في عالم السفلي من الزماني مثل الشتاء والصيف والخريف والربيع.
ومن المكاني مثل المعدن والنبات والحيوان والإنسان فظهور الأحوال المختلفة بحسب سير الكواكب على الدوام لمصالح الإنسان ومنافعهم منها، وتسخير الملائكة بأن الله تعالى من كمال حكمته وقدرته جعل كل صنف من الملائكة موكلين على نوع من المدبرات وأعواناً لها كالملائكة الموكلين على الشمس والقمر والنجوم وأفلاكها والموكلين على السحاب والمطر، وقد جاء في الخبر أن على كل قطرة من المطر موكلاً من الملائكة لينزلها حيث أمر، والموكلين على الرياح والبحور والمخلوقات، والملائكة الكُتَّاب للناس الموكلين عليهم، ومنهم المعقبات من بين أيديهم ومن خلفهم يحفظونهم من أمر الله حتى جعل على الأرحام ملائكة، فإذا وقعت نطفة الرجل في الرحم يأخذ الملك بيده اليمنى وإذا وقعت نطفة المرأة يأخذها الملك بيده اليسرى، فإذا أمر مشجها بمشج النطفتين، وذلك قوله تعالى:
{ إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ } [الإنسان: 2].
وأما الملائكة الموكلين على الجنة والنار كلهم مسخرون لصالح الإنسان ومنافعهم حتى الجنة والنار مسخرات لهم تطميعاً وتخويفاً لأنهم يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، والنعمة الباطنة هي تسخير ما في السماوات وما في الأرض الباطنة وهي القلب والنفس وقد تقدم ذكر ما فيهما وبقوله:
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الحج: 3] يُشير إلى أهل الجدل من الأصوليين والفلاسفة، فإنهم يجادلون في ذات الله وصفاته بغير علم في معرفة ذاته وصفاته؛ لأنهم ما سلكوا طريق المعرفة في متابعة الأنبياء بدلالة صاحب ولاية عالم رباني واقف على أسرار الطريقة عارف بأسرار عالم الحقيقة ليخرجهم من ظلمات الإنسانية إلى نور الربانية ليعرفوا الحق تعالى بنوره فهو يهديهم إلى معرفة ذاته وصفاته بإفناء ذاتهم وصفاتهم عند تجلي ذاته وصفاته، فلما كان أهل الجدال بمعزل هذا العلم وعن هذا الهدى قال تعالى: { { ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى } [الحج: 8] ولا هدى.
وأما قوله:
{ وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } [الحج: 8] يشير إلى أنهم إذا كانوا معطلين عن هذا الهدى لو تمسكوا بالقرآن واستمسكوا به في معرفة ذات الله وصفاته لاهتدوا ولكنهم { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا } [لقمان: 21] بهذا يشير إلى الجدال إذا قال لهم الحق: اتبعوا في معرفة ذات الله وصفاته ما أنزل الله من كتابه من الدلائل في التوحيد، يقولون: بل نتبع الدلائل العقلية تقليداً لما وجدنا عليه أستاذنا والحكماء الأوائل، فلا يقبلون دلائل القرآن العظيم والكلام على التوحيد ويقبلون دلائل العقول المشوبة بالوهم والخيال وشبهات أهل الأهواء والبدع على الكفر والضلالة قال الله تعالى فيهم: { أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } [لقمان: 21] أي: بموجبات اتباعهم الدلائل والشبهات العقلية.